كِبّي يَا البَيَّه وْڤُولِي نَا شرفْ الرّيفِيّة لاَ نْوَصّي لاَ نْمِدّ اِيدَيَّا
كِبّي يَا للَّة تِجْرِي عَلَى خِدْمِةْ المْذَلَّة ودَمّكْ مِتْبَزّعْ شِرْتِلَّه
كِـبَّاهَا وْهَيْ نِتْبَاكُو كِي مْشِينَا ضْحِيّة لاَ رَاحَة وْلاَ عيِشَه هْنِيَّه
تِحْڤَرْنَا وْنْمْوتَوا فْقَارَى كَبيّ عَلى الخَوتْ وْاَوْلاَدَنَا اِلّي كْلاَهَا الْحْوتْ
وْالْبْقِيّة تْصَارَعْ فِي المُوتْ وْمِنْهُمْ اِلّي هَجُّوا يَا خْسَارَه
كِبّي يَا حَنَّا ڤَبْرِكْ مِتْعَطّرْ بِالحِنَّاء وْاِنْ شاَء الله مِنَّا لِلِجَنَّة كِي شْوِتْنَا المُوتْ الغَدَّارَه
كِبّي يَارِيمَه خَلُّوكْ ذِلِيلَه ويِتِيمَه اشْتَـڤْـتِـْيهَا كِلْمِةْ لِمّيمْه اِلّي تْسَبَّبْ الله يِخْلِي دْيَارَه يَا لِلّة
*كلمات: أم ربيع، الحامة

السبت 27 أفريل 2019 … الطريق الرابط بين منطقة “الشارع” و “سبالة اولاد عسكر” (ولاية سيدي بوزيد)، حادث شاحنة نقل عاملات فلاحيات … مقتل 11 من العاملات والعملة االفلاحيين و سائق الشاحنة (7 نساء و فتيات و 4 رجال) استقرّوا بمقابر دوّار البلاهديّة المتفرقة بسفح جبل مغيلة. و18 جريحة و جريجا (11 إمرأة و فتاة و 7 من الشباب والكهول) توزّعوا على مستشفيات سيدي بوزيد، القصرين، صفاقس، سهلول سوسة.

قضية العاملات الفلاحيات، والاحزاب السياسية والمنظمات النقابية والنسوية والمجتمع المدني: من أجل تحسين شروط العبودية
هذه الحادثة لم تكن الاولى من نوعها، فمأساة العاملات الفلاحيات في تونس ليست وليدة اليوم إذ تعود لسنوات طويلة. الجديد الذي طرأ منذ الثورة أن حرية الاعلام وسرعة انتشار المعلومة عبر وسائل التواصل الاجتماعي مكنتنا من الاطلاع أكثر على هذه الحوادث التي لم تنقطع. اذ شهدت الأربع سنوات الاخيرة حوادث مشابهة وحسب الاحصائيات المتوفرة فإنها أودت بحياة أكثر 40 من العاملات الفلاحيات و جرح 500 إمرأة. في نفس يوم حادثة السبّالة بسيدي بوزيد شهدت فوسانة بولاية بالقصرين حادثًا مماثلا أدى لجرح 15 امرأة من العاملات الفلاحيات.
تعقيبا على الخبر جاء تصريح وزيرة المرأة صريحا ووقحًا ليكشف مرة اخرى موقف الدولة من قضايا المهمشين ومن بينهم العاملات الفلاحيات والفلاحين بشكل عام. فوزيرة المرأة ترى أن لا مسؤولية للحكومة في حادث السبّالة. و تؤكد أن الاطراف الحكومية قامت بواجبها ووضعت الخطط وقامت بتنفيذها لتتهم أطرافا لم تسمّها بعدم القيام بمسؤوليتها وعدم تنفيذ بعض الجوانب القانونية وحمّلت سائق الشاحنة الذي لم يحترم القانون.
في اطار ردود الأفعال وبالعودة لجملة من البيانات اتفقت مواقف الاحزاب السياسية على إختلاف توجهاتها السياسية سواء الاسلامية او اليسارية او القومية و المنظمات النقابية والنسوية الحداثية والمجتمع المدني على ادانة الحادثة والتركيز على ظروف النقل غير الانسانية وغياب التغطية الاجتماعية للعاملات الفلاحيات والمطالبة بتسوية الوضعية غير القانونية وتطبيق القانون وتفعيل الاتفاقيات الممضاة بين الاطراف الحكومية والاطراف النقابية والاجتماعية منذ 2016 في هذا الاطار.
هكذا، تمّ اختصار قضية العاملات الفلاحيات ككارثة إنسانية تتطلب تطبيق القانون أو تعديل القانون أو سنّ قوانين جديدة لتحسين أجور العاملات وتسويّة الوضعية الهشّة لعملهنّ من خلال وضع إطار قانوني لهذا العمل. والتأكيد على ضمان التغطية الاجتماعية و وسائل نقل أكثر أمانًا. أُعتبرت ضحايا “الكميونة” (الشاحنة الفلاحية) ضحايا حادث مرور، وصل الأمر بإحدى الاذاعات العمومية إلى إستدعاء ممثلين عن جمعية الوقاية من حوادث الطرقات في اطار تغطية الحادثة، ممّا يعكس طبيعة التناول الاعلامي لقضية حوادث العاملات الفلاحيات

دوّار البلاهدية: الخبز الحافي والموت العاري
هذا دوّار البلاهدية، شيء ما ينتابني وانا أصل أرضًا ابتلعت في جوفها نساء ورجال اختطفهنّ واختطفتهم الموت غير عابئة بأمهاتهنّ وبأمهاتهم، بإخوتهنّ، بأخوتهم، بجدّاتهم، وبكلّ تفاصيل حياتهنّ وحياتهم التي لا تشبه أي حياة. ألتفتُ يمينًا ويسارًا أنظر للأعلى: لا شيء هنا. رائحة الموت تحاصرني وتحاصر المكان، تخنق السماء الواسعة الي تضيق أكثر عندما يمرّ سرب من المروحيّات العسكرية متكون من ثلاث مروحيّات تحلّق على ارتفاع منخفض. يخيّل لي أنها تكاد تسقط فوق رؤوسنا لو لا جبل مغيلة الذي يشّد هذه المروحيات ويرفعها فوق رؤوسه المتعدّدة كالتيجان المغروسة في باطن الأرض. الطائرات العسكرية هي ما يشير إلى أن هذه الارض جزء من جغرافيا دولة ما. لكنّك لن تستطيع معرفة هذه الدولة. فيكفي أن للدولة جيشًا يحميها من أعداء مفترضين يشكّل أبناء داوخل البلاد أغلبية جنوده في استعادة لدور عسكر زوارة في جيش الباي في تونس و استمرار لنفس الدور التاريخي لعسكر زوارة سواء في جيش دولة البايات او في جيش الدولة الوطنية، هكذا هم البرارة القدم-الجدد كيفما تتعاملت معهم السلطة المركزية بالأمس وتعاملهم اليوم “مقدمّين في المغرم مؤخّرين في المغنم”.

أتوغلّ أكثر في وجوه الدوّار، تبتلعني الأرض … أبتلع لساني. وأفقد قدرتي على الكلام أكثر مع تكثّف كلام الجدّات الناجيّات من الموت لكني مازلت أشتمّ من كلامهنّ رائحة للموت تزيد من اختناقي. صوت الجدّات المبحوح ووجوههنّ الظاهر على سماتِهنّ آثار لطم الخدود وندبات الزمن والتاريخ ووشم الماضي ورسائل المستقبل. مازلت أؤمن أن موت أيّ إنسان أمر لا يمكن أن يمرّ بصمت وأرى في أنّ الندب وشقّ الجيوب ولطم الخدود دفاع عن أرواح المغادرين والمغادرات وخلاص للباقين والباقيات حتّى لا تقتلنا الموت جميعًا. بين هذه الوجوه ازداد يقيني إيمانًا … ومن رأى ليس كمن سمع …
على سفح جبل مغيلة انتصبت بعض المساكن كخيام قبيلة تستعدّ للرحيل بعد أن شحّ الماء وانقطع الكلأ والكلام دفعة واحدة. حيث الوطن فرضية وهميّة والدولة عنصرية لصالح “عرق اجتماعي وسياسي”، وسط عائلات وقبور شهيدات الاستعباد الاقتصادي والتهميش السياسي. تكاد الأرض تبتلعني، فيما جدّاتٌ وبناتٌ وأبناءٌ وأباءٌ وأبناءُ عمٍ ّوعمات وأخوالٌ وخالاتٌ يحصون الشهيدات والفقيدات والجريحات. إحدى الجدّات تَشُدُّنِي من ذراعي وتسألني: “مناش محسوبين في الخريطة، حني توانسة والّا لا؟ علاش نمشوا تالا الرقاب وبوزيد واولاد عسكر وحني عندنا الارض وماعندناش باش نحفروا بير ماء.. لا ولاية ولا معتمدية تتلفتنا؟ (لماذا نذهب لمنطقة الرقاب وسيدي بوزيد وسبالة اولاد عسكر، لنا ارضنا، لكننا لا نستطيع التكفل بحفر بئر عميقة، السلط المحلية لم تلتفت إلينا).
الشيخ بدي يحفر في سونتاج ومانجّمش يكمّله وأمّ الشيخ حتى” هي من بين النساوين والشناتي اللي اتقتلوا في الكميون” (عمدة المنطقة بدأ في حفر بئر عميقة و لكنه لم يستطع إستكمال إنجاز هذه البئر، أمه من بين النساء والفتيات اللاّتي ذهبن ضحية حادثة الشاحنة).

يخبرني أخ أحد الجريحات و ابن عم أكثر من شهيدة و شهيد، عن تجربته للبحث عن عمل في مدينة سوسة هروبًا من تدنّي الأجر في القطاع الفلاحي. إذ ينتقل شباب و كهول دوّار البلاهديّة نحو المدن الساحلية للعمل بقطاع الاشغال والبناء لفترة ثم يعودون للعمل الفلاحي الموسمي لفترة اخرى. دائما يصطدمون بضعف المداخيل المادية. تنقطع كذلك الفتيات عن الدراسة إما للعناية بالعائلة في المنزل لكون أمهاتهنّ يلتحقن بالعمل الفلاحي. ويتمّ تبادل الادوار بين الامهات و البنات في العمل الفلاحي والعناية بالمنزل بينما ينتقل الشباب الذكور للبحث عن شغل في المدن الكبرى.
دوّار البلاهدية شاهد على مأساة فلاحين وفلاحات أصبحوا عملة فلاحيين “بعشرلاف الجرناطه”: عشر دنانير يوم العمل الواحد. تتحصل العاملة الفلاحية على 7 دنانير فقط منها بينما تكون 3 دنانير المتبقية لصاحب الشاحنة الذي مات في الحادثة. كلّ هذا ليس حادث مرور عادي ومشكل نقل فوضوي وغياب تغطية اجتماعية. كلّ هذا اسمه سياسات عنصرية طبقية رأسمالية انتجتها دولة “الحداثة” الوطنية-الاستعمارية، و تزيد ترسيخها ايديولوجيا الاستثمار الخاص والنيوليبرالية المتوحشة.
ما أبعد من الكارثة الإنسانية: التدمير الممنهج والإستغلال الاقتصادي والاقصاء السياسي لصغار الفلاحين
يبدو الظاهر أن النساء فقط اكثر عرض للاستغلال الاقتصادي من قبل كبار الملاكين و المستثمرين الفلاحيين. إذ تشهد الجهات الداخلية منذ عقود تحوّلا لتقسيم الاعباء المادية. ينتقل الرجال للعمل في مهن الاشغال والبناء و السياحة بالمدن الكبرى وخاصة الساحلية منها مقابل تكفّل المرأة برعاية العائلة اضافة للعمل الفلاحي الموسمي. بما يظهر تهافت تحاليل وحجج نسويّة المركز التي تغرق في اسقاط تحليل ذكورية المركز على الهوامش. و ترجُم مجتمعات الهوامش بتخلّفها لهيمنة ذكورية فقط، و تسقطها على الجهات الداخليّة. وتتاجهل كون “تحرر” نساء الطبقة البرجوازية وحتى الشرائح العليا للطبقة الوسطى في المدن من العمل المنزلي يمرّ عبر استغلال نساء الاحياء الشعبية والجهات الداخلية كعاملات منزليّات. فالخطاب الحقوقي والسياسي النّسوي المُهيمن يركز على الحريات الفردية والحقوق الجنسية والانجابية فقط دون الالتفات الى وضعية العائلة واضمحلال الفلاحة العائلية وتحوّل الفلاحين والفلاحات الى عمَلة في مهن أخرى خارج إطار العائلة التي كانت محور الاقتصاد الفلاحي الريفي. إنّ التخلي عن الفلاحة العائلية سياسة ممنهجة كرستها سياسات عمومية تركز على دعم المشاريع الفلاحية الكبرى مما أدى إلى هشاشة وتآكل الإقتصاد الريفي والمحلي وتكاثر الفلاحين والفلاحات بدون أرض كنتيجة لسياسات دعم كبار الفلاحين على حساب صغار الفلاحين والفلاحات. وتوجيه كل آليات التمويل للمشاريع الفلاحية الكبرى الخاصة.
هنا يحافظ التضامن الاخلاقي والانساني والخطاب السياسي والحقوقي الرسمي الحزبي باختلاف دعاته على دور وظيفي للعاملات الفلاحية باعتبارهنّ أدوات لتوفير الانتاج والامداد بالغذاء دون أي اعتبار لحقوقهنّ وحقوق عائلتهنّ في النفاذ للموارد الطبيعية، وخاصة الارض والماء. فالخطاب الحقوقي والسياسي الذي تعبّر عنه الاحزاب السياسية والمنظمات النقابية والنسوية والمدنية ينبع من تطبيع واقع النساء والعائلات وتحوّلهنّ لأجيرات تحتاجهنّ الفلاحة التونسية لإمداد المدن الأكثر استهلاكا للمنتجات الفلاحية. وارتبط ذلك مع تركيز الفلاحة التونسية نحو توجه تصديري وفق نمط إنتاج مكثف يهدد الموارد المائية منذ عقود في إطار التعويل على المداخيل التي يمكن أن تحققها الفلاحة من التصدير لرفع مخزون البلاد من العملة الصعبة ومن اجل سدّ عجز الميزانية وخلاص الديون التى تقترضها الدولة من مؤسسات التمويل والبنوك الدولية. هذه المؤسسات التي ترسم السياسات العمومية وتطالب بتحرير السوق امام المستثمرين الاجانب. في السياق نفسه يأتي مشروع اتفاق التبادل الحرّ والشامل والمعمق مع الاتحاد الاوروبي الذي تفاوض بشأنه الحكومة التونسية مع الاتحاد الاوروبي. اتفاقية من المتوقع ان تستكمل القضاء على صغار الفلاحين والفلاحات وتسهم في تعميق تدمير قطاعات كالحليب وتربية الماشية واللحوم و الحبوب .مما سيؤدي لانقراض الآلاف من صغار الفلاحين والفلاحات في غضون سنوات.
هنا لا بدّ من استحضار نصّ لفرانز فانون يشير فيه لتناقضات أعادت الدولة الوطنية إنتاجها:
“ولا يزيد الفلاحون، إزاء هذه البرجوازية الوطنية وهؤلاء العمال الذين يأكلون بينما الفلاحون جياع، لا يزيد الفلاحون إزاء هؤلاء أن يرفعوا أكتافهم غير مكترثين. إنهم يرفعون أكتافهم لإدراكهم أن هؤلاء و أولئك لا ينظرون إليهم إلا نظراتهم إلى تكأة يُتكّأ عليها، فالعمال والنقابات و الحكومة إنما يستغلون جماهير الفلاحين إستغلالا ميكيافليا لا أخلاقيا، استغلالهم لقوة عاطلة عمياء يحسن الانتفاع بها في المناورات.” (فرانز فانون، معذبو الأرض)
نحجت سياسات دعم الاستثمارات الخاصة في القطاع الفلاحي وحرمان صغار الفلاحين والفلاحات وعائلاتهم وعائلاتهنّ من أي آليات تمويل لنشاطهم. فالفلاحون الذين لا يستطيعون النفاذ للماء ولا للتمويل المالي يتمّ دفعهم دفعهنّ لبيع أراضيهم أراضيهنّ ليتحولوا إلى يد عاملة رخيصة لدى الملاكين الجدد وهو ما تشهده منطقة الرقاب في ولاية سيدي بوزيد التي تتعرض لغزو فلاحي من قبل المستثمرين الخواص، من جهة صفاقس خاصة. أدت السياسات الفلاحية النيوليبرالية المتوحشة لتهجير الآلاف من أبناء الجهات الداخلية نحو المدن الكبرى كيد عاملة رخيصة في مهن الاشغال و البناء والتنظيف والحراسة. اذ يلتحق هؤلاء الفلاحون الذي هزمتهم سياسة الدولة بالأحياء الطرفية بأحواض المدن الكبرى باعتبارهم يد عاملة رخيصة بالمصانع نساءً رجالاً أو يلجئون الى ممارسة أنشطة اقتصادية هامشية و أكثر هشاشة لتعمق أزمتهم الاقتصادية ويتعاظم إقصائهم السياسي.
سفح جبل المغيلة ودوّار البلاهدية أعاد أمامي مشاهد سابقة مرّت عصيّة على ذاكرتي، لعلّ أحدها مشهد موطن أنور السكرافي شهيد الكامور، منطقة العرڤوب من معتمدية البئر الاحمر من ولاية تطاوين. جبل أحمر عاري … أشبعته دماء المقاومين وشمس القابعين بسفحه كالأوتاد يشدّونه ويحمونه من السقوط. بهذا النصّ المسجّل بصوتي إثر حضور جنازة الشهيد أنور السكرافي أختم هذا المقال الذي حاصرني وخنقني و به حللتُ عقدة من لساني … …
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً