بقلم سفيان فرحات
سيفوّت هذا المقال الفرصة على كمال الرياحي كي لا يستضل بخيمة المظلومية والإدعاء بالاعتداء على شخصه أو انتزاع “بيت الرواية” منه، هي آخر الأوراق التي يختبئ ورائها بعد فضيحته التطبيعية (هكذا نسمّي احتفاءه بمقال جريدة صهيونية عنه). ولإقناعنا بأنه عرضة لحملة تحريض نشر الروائي على فضاءه الافتراضي الكثير من التدوينات التي تشير إلى تهديدات تطاله وأسرته. بعضها قديم يعود إلى سنوات، هي محاولة لاستدرار ضرع العواطف وخلق هالة حول شخصه تحت يافطات حرية التعبير والتهديدات التي يعيشها الكتّاب في البلاد العربية. فبعد الاعتذار الباهت على جرمه، لم يبق له سوى لعب دور الضحية، ولا نريد له أن يلعبه لأنه سيطيل لعبة تافهة تعيش على وقعها الحياة الثقافية في تونس منذ سنوات.
هذا النص هو محاولة لتفكيك “ظاهرة” تمدّدت منذ سنوات في عالم الأدب وتتحرّك ضمن سياج الدولة. ليس كمال الرياحي غير نموذج لعقلية منتشرة في كواليس مؤسساتنا، عقلية معششّة في الثقافة التونسية كما العربية، كتل متحركة من النرجسية العالية والانتهازية لا تخوض إلا حروب المكاسب الشخصية.
ربما اكتشف كثيرون كمال الرياحي من الضجة الأخيرة، لكنه أحد أكثر الروائين في تونس لهاثاً خلف البروز في المشهد الثقافي. يكفي أن ننظر في صفحته أو في صفحة “بيت الرواية” الذي يديره، وهو مؤسسة عمومية، كي نرى حجم تضخمّ الأنا، دون أن نغفل عن محتوى تعليقاته ومقالاته ذات النزعة المدحية للذات والهجائية لخصومه، هي أيضا فضاء لربط علاقات في كل الاتجاهات، وفي هذا السياق ربما تقاطعت المصالح مع مشروع دار النشر الإسرائيلية التي تود نقل روايات عربية إلى العبرية. مرّ خبر الترجمة دون ضجيج ، ولكن الجاهل يفعل بنفسه ما لا يفعله به عدوّه. من المرجح أن مرور هذه الترجمة إلى العبرية في صمت قد حزّ في نفسه، فسولت له “أناه المتضخمة” التسويق لـ”حدث” وصوله إلى قلب تل أبيب، وروّج مزهوّا لمقال مرّرته له مترجمته ريم غنايم، تهافته المحموم للبروز أوقعه تحت مرمى نبال المثقفين وعامة الشعب بتهمة التطبيع والتي ترتقي عند البعض إلى “خيانة عظمى”.
صورت له نرجسيّته أن ردود الأفعال الحينية كانت كرها لنجاحاته الأدبية المتلاحقة وحسدا ممن في قلوبهم مرض. لم ينتبه إلى مشاعر التونسيين من هذه المواقف المشينة في زمن تهرول فيه الأنظمة إلى التطبيع دون رضًا من شعوبها. حين كبرت كرة الثلج، عرف الرياحي أنه أصبح كملاكم في زاوية الحلبة، وبخبرة محترف الضجات بدأ فصلا من “التمكسن” ثم أنتقل سريعا إلى المزايدة على أنصار القضية الفلسطينية ضمن بيان إعتقد أنه أرضى به العامّة، وما هي إلا مناورة جديدة للحفاظ على قلاعه.
كيف لمثقف ألا يلتقط نبض شعبه، وأن ما أقدم عليه من تباه بمقال في جريدة صهيونية هو الموقف الشاذ، ولذلك نسمّيه تطبيعا لأنه يحاول أن يجعل من الشاذ طبيعيا. تُخفي النرجسية المتورمة عواقبَ الأمور أحيانا، نرجسية تمتزج بتفاهة، فمن لا يرى مأساة الشعب الفلسطيني التي قامت على أوجاعه دولة الاحتلال فضميره بالضرورة معطّل وهو شكل من أشكال التفاهة.
لو كان اعتذار الرياحي صادقاً لذهب أبعد من تلك العبارات الخشبية التي قالها. كان يجدر به أن يضع خدماته في صف جهود تعرية التطبيع الثقافي بما أنه كان ضحيّته.
كيف جرت الأمور من البداية؟
هل أن هذه الحادثة معزولة أم سبقتها استدراجات أخرى؟
ماهو دور المترجمة وماهو دور دار النشر الإسرائيلية؟
بات بيان الرياحي حجة لأنصاره في القول بأن الرجل اعتذر وانتهى الأمر. للأسف، هذه القضية لا تفيد معها اعتذارات صورية، إنها أعَراض لداء عضال، ينبغي تشخصيه بدقة والبدء في مقاومته بجديّة، داء التطبيع الذي تسرّب على مسام المؤسسة الثقافية العربية منذ منعرج السبعينات
بالمناسبة، اكتشفنا أن لكمال الرياحي “حزاماً” من المدافعين عنه. علينا أن ننتبه إلى أننا تجاه كاتب من تونس له شبكة يتحرّك ضمنها وأذرع تتحرك حسب مصالحه، الأمر أشبه بظاهرة ‘الذباب الأزرق”. الخطير فقط هي تأتي ضمن الحلقة الثقافية والأخطر أنها تابعة لكاتب اكتشفنا مؤخراً فقط ارتباطاته بالعدو الإسرائيلي وما كنا لنكتشفها لولا خطأه الاتصالي.
في شبكة كمال الرياحي هناك دائرة معروفة من أصدقائه من الكتّاب والإعلاميين من السهل أن نعرف من هم، لأنه من النادر ألا نجد فعالية يُنظّمها الرياحي ولا يحضرون فيها معه. كما نجح الرياحي في استدراج آخرين بشعارات الدفاع عن الكتّاب والمثقفين من هجمة الغوغاء. لمن لا يعرف الرياحي، يمكن أن نجد في صفحته صور استقباله في المطار بباقة ورود حين يأتي من تظاهرة أجنبية كما تتحرك هذه الشبكة بشكل أوتوماتيكي مع كل ما يصدر منه: تنظيم ملتقى، إصدار رواية، وحتى إذا صدر عنه مقال في جريدة، إلخ…
لاحقاً، انتشرت مغالطات هنا وهناك، من قبيل عناوين فجة وسخيفة كهذا: “كبار الكتاب العرب يساندون كمال الرياحي ويصدرون البيان التالي” (موقع جمهورية – أخبار الجمهورية سابقا). نجد في أعلى قائمة الموقعين الروائي الجزائري واسيني الأعرج، والذي سبق وأنجز حوله الرياحي كتابا نقديا، كما نجد من الكتاب العرب ما يقدّر نسبته بـ 40 بالمئة من الموقعين معظمهم من شبكة كمال الرياحي المهنية (سبق أن دعاهم لبرامجه في بيت الرواية أو ضمن معرض الكتاب حين أسندت له مهمات تنظيمية)، وربما دعاهم شخصيا للتوقيع ولم يكن الأمر مبادرة منهم.
ما لم نفهم طريقة عمل هذه الشبكات لن نفهم الكثير مما يدور في الحياة الثقافية العربية. وعلينا ألا ننسى الظرف الزماني لحادثة السرور بنشر مقال في صحيفة صهيونية. لقد أتى ذلك قبل يومين من إعلان القائمة القصيرة لجائزة البوكر التي ترعاها الإمارات. إذا عدنا إلى التركيبة النفسية الرياحية سنجد أن بثّ الاحتفاء بمقال إسرائيلي قد يكون إشارة إلى لجنة الجائزة ما يدعم حظوظ الكاتب.
هنا نفهم حلقة أخرى من الثقوب السوداء التي يمكن أن تبتلع حياتنا الثقافية. فتطبيع النظام الإماراتي بات يشبه إشارة لعدد كبير من المثقفين بأن التطبيع مع الكيان الصهيوني بوابة للوصول إلى “السخاء” الإماراتي.
علينا أن نذكر حادثة أخرى كان الرياحي في صدارة مشهدها. حين دعى منذ أشهر الكاتب الكندي الأرجنتيني ألبيرتو مانغويل وبدأ في بثّ دعاية مضخّمة بالحدث الأدبي الذي لا مثيل له في العالم العربية. وقتها، رفض وزير الثقافة محمد زين العابدين الدعوة ولكن بحجج إدارية تافهة، وخرج كمال الرياحي بطلاً ثقافيا حين أقيمت ندوة مانغويل التي حين نتذكرها اليوم سنجد بأنها “كلمة حق أريد بها باطل”.
لم ينتبه كثيرون إلى أن مانغويل أحد الموصومين بالتصهيُن، وهو الذي عاش في تل أبيت بعضا من صباه حين كان والده سفير الأرجنتين في عاصمة الاحتلال. إذن فالتطبيع الثقافي لم يبدأ اليوم، ولعل الكثير حدث من وراء ظهورنا دون أن ننتبه.
وعلى الرغم من أن مانغويل قامة إبداعية فإن الظرف الحالي الذي تعيشه القضية الفلسطينية يدعونا إلى تحاشي كل تقاطع مع العدو ومنصاته الثقافية. فإذا كانت الدول تهرول للتطبيع، على الثقافة أن تكون جبهة يقظة تحمي المنطقة من السقوط المتسارع في الخذلان.
للأسف، يجد الرياحي بعض المخارج في حصاره من خلال سوء طوية بعض المناوئين له. فلا يخفى أن الحرب عليه ليس فقط من أجل نصرة القضية الفلسطينية بل هي أيضاً طمع في الكعكة التي سوف تبقى بلا مدير بعده والمقصود بيت الرواية. إلى هؤلاء ينبغي أن ننبته أيضاً، فقد يكونون مطبّعين محتملين ستقودهم عقد نفسية شبيهة إلى نفس ما وقع فيه الرياحي.
في حجاجه المخاتل إدعى الرياحي دفاعه عن القضية الفلسطينية فماذا نجد في سجله الروائي؟
في رصيده اليوم أربع روايات أوّلها “المشرط” التي صدرت في 2006 ومثّلت حينها نفسا جديدا في الأدب التونسي، وبعد ذلك نجحت في أن تكون حدثا ثقافيا وهو أمر نادر لكتاب تونسي في تلك الفترة. كانت نقلة أسلوبية ذات جرعة نقدية تجاه الواقع الاجتماعي، وقد انطلقت من حكاية الشلاّط المعروفة.
في 2011، نشر الرياحي رواية الغوريلا، وهي ضربة اتصالية بامتياز، ففي سنة الثورة يجوز ركوب موجتها، عاد إلى حادثة تسلق أحد الشباب لساعة 7 نوفمبر وبنى رؤية عن تونس في نهايات زمن بن علي. أوصلته الرواية إلى درجة أخرى في سلم الشهرة الأدبية فانتقل من النشر في تونس إلى “دار الساقي” اللبنانية ومقرها لندن.
وجد الرياحي أن ملامسة القاع الاجتماعي بكل مفرداته من مخدرات وجنس وبلطجة بات حصان سبق في مغامرته الأدبية، فواصل ضمن نفس المنهج في “عشيقات النذل” وقد صدرت في 2015 ثم في آخر رواية له عام 2019 “البيريتا يكسب دائما” ليدخل بشكل نهائي تحت سقف الروايات التجارية.
هذا الأدب الذي قدّمه الرياحي هل فيه ما يُسند ادعاءه بأنه كان دائما مع القضية الفلسطينية؟ إنه أدب يشبه موجة المسلسلات التي انتشرت في العقدين الأخيرين (وهو تزامن مريب)، زمن دراما من نوع “أولاد مفيدة” و”نجوم الليل”.
الخطوات الأدبية رافقتها انتقالات في المواقع الإدارية. خاض الرياحي تجربة الصحافة الثقافية وانفتح سريعا على منابر عربية، وله إضاءات مشهود له بها على المشهد الثقافي التونسي. كان صوته جوهريا في نقد خمول المؤسسة الثقافية التونسية ثم خفت فجأة حين دخلها وبات منذ 2014 في موقع مركزي حين أسندت له إدارة “دار الثقافة المغاربية ابن خلدون”، ثم في 2018 أنشأ “بيت الرواية” التي يترأسها إلى اليوم.
في الأثناء، كان الرياحي وراء الكثير من المبادرات الثقافية أشهرها ناس الديكامرون ونهج السرد، بيت الخيال، وبادر بإنشاء مكتبات في مدراس في قرى نائية. كما انتزع مواقع في التلفزيون للثقافة. كل هذا جيّد. المصيبة حين نكتشف أن له علاقات مع دوائر هي ألد أعدائنا. ماذا لو كان كل هذا الجهد الثقافي مجرّد تمهيدات لتطويع النخب الثقافية التونسية للقبول بدولة الاحتلال كجار كما تفعل بعض الأنظمة المتخاذلة اليوم.
ربما كان الرياحي دون أن يعلم بالون اختبار من قبل من يديرون كل اللعبة من وراء الستار. ربما قرروا أن يجرّبوا أثر تبجّح كاتب باحتفاء جريدة صهيونية به ليعلموا كيف يرسمون الخطط القادمة. ربما لو نجحوا في تمرير حبّة الأفيون هذه، لقرّروا استعمال “المشرط” في عمليات قادمة.
* يصدر هذا المقال في موقع “انحياز”، ومن المفارقات أن لكمال الرياحي برنامج إذاعي بنفس العنوان. ربما هي مناسبة كي نعرف أن لكل واحد منا انحيازه.
التحرير: الأراء التي يعبّر عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها، ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه منها.