مقال رأي للناشط حمزة نصري الجريدي
شهدت تونس منذ انتفاضة 17 ديسمبر – 14 جانفي 2011 تغيرًا جذريا في التعاطي مع عديد القضايا، ذلك ما جعلها محط أنظار المنطقة والعالم ككلّ. فلا مندوحة من القول أنّ تجربتها السياسية والاجتماعية كانت فاتحة عهد تغيير رائد، على غرار الانجازات التي تحققت مع مشروع بناء الدولة الحديثة العصرية. هذه التجربة مازالت تشهد تأرجحًا بين الالتزام باليافطة العامة للانتفاضة وبين انتكاساتها التي تتالت، لكنّ الأكيد أنّ هنالك مجهودات جبارة يبذلها المجتمع المدني والقوى الديمقراطية لتحقيق القيم المنشودة مثل العدالة، المساواة والكرامة والتشبث بمنظومة حقوق الإنسان الكونية، الشاملة والمترابطة. وليس أدلّ على ذلك من أنّه لم تخلُ أيّ حكومة تونسية خلال المدة المنصرمة من “وزير مكلف بحقوق الإنسان”، وهذا ربما يُعدُّ مؤشرًا جيدًا.
لكن في الأزمات الحادة، نلاحظ تقهقرا في تفعيل مكاسب انتفاضة الحرية والكرامة، ولا يخفى على أحد أن تونس ذاتها التي تؤمن وتنخرط بقوة في منظومة الدفاع عن حقوق الإنسان، تُجرّم في الآن ذاته من خلال الفصل 230 من المجلة الجزائية العلاقات الرضائية بين شخصين من نفس الجنس. اذ ينصّ هذا الفصل على أنّ “اللواط أو المساحقة إذا لم يكن داخلا في أي صورة من الصور المقرّرة بالفصول المتقدّمة يعاقَب مرتكبه بالسجن مدة ثلاثة أعوام”[1]. وفي زمن الأزمات، مثل الذي نعيشه اليوم تحديدا جراء الفيروس المستجد كورونا، تشهد عديد الشرائح والفئات الاجتماعية عنفًا مزدوجًا: بين الخصاصة والفقر، بين مجابهة الأمراض والأزمات النفسية الحادة أحيانا، بين الإقصاء الاجتماعي والاحتقار وبين العنف الذي تمارسه أجهزة الدولة، تتقاطع كلّ هذه العوامل لخلق أزمة ما بعد الأزمة.
ضمن هذا الإطار العام يتنزل الحوار مع سيف العيّادي عن دمج – الجمعية التونسية للعدالة والمساواة، إحدى مكونات شبكة التضامن الشعبي/”المبادرة الشعبية للتصدي لوباء كورونا” – إلى جانب جمعيّة الورشة الاعلاميّة للحقوق الاقتصاديّة والاجتماعيّة [وجمعية الصحة للشعب وجمعية “تعبيرات” والخ ] وعدد من الفاعلين والفاعلات المستقلين والمستقلات – والتي عملت على تقديم الدعم المادي للمتضررين والمتضررات من وباء كورونا (مواد غذائية ووقائية بالأساس). ومن بين المستفيدين من أنشطة الشبكة والمبادرة أفراد مجتمع ال “م، ع”[2]؛ وذلك ما يكشف عن تضامن كويري مطلق و ثابت، وهو ما يطرح في نفس السياق أهمية التفكير في أفراد المجتمع نفسه ، مجتمع ال “م، ع” الموقوفين في السجون التونسية بسبب ميولاتهم الجنسية أو تعبيراتهم الجندرية اللامعيارية.
وقد يكون ذلك صدى ناقوس الخطر، هذا إذا ما أخذنا بعين الاعتبار ما صرّح به سيف العيادي، الذي أكد أن عدد الذين يقضّون عقوبة سجنية بسبب الفصل 230 والفصل 226 في سنة 2019 بلغ حوالي 100 شخص. بين المادة الأولى من الإعلان العالمي لحقوق الإنسان التي تنصّ على ما يلي: “يولد جميع الناس أحراراً ومتساوين في الكرامة والحقوق. وهم قد وهبوا العقل والوجدان وعليهم أن يعاملوا بعضهم بعضاً بروح الإخاء” وبين الفصل 49 من دستور الجمهورية الذي يؤكد على التالي “يحدّد القانون الضوابط المتعلقة بالحقوق والحريات المضمونة بهذا الدستور وممارستها بما لا ينال من جوهرها. ولا توضع هذه الضوابط إلا لضرورة تقتضيها دولة مدنية ديمقراطية وبهدف حماية حقوق الغير، أو لمقتضيات الأمن العام، أو الدفاع الوطني، أو الصحة العامة، أو الآداب العامة، وذلك مع احترام التناسب بين هذه الضوابط وموجباتها. وتتكفل الهيئات القضائية بحماية الحقوق والحريات من أي انتهاك” تعيش تونس بين التناقض وبين أضغاث أحلام في تحقيق مساواة تامة. وهذا ما تبينّه الأزمة الصحية الراهنة، فقد تحولت حياة العديد من المواطنين إلى جحيم مطلق بسب التعذيب الذي يمارَس جرّاء الفصل المذكور آنفا، وبسبب الخوف من الموت جراء وباء عالمي.
تجدر الإشارة إلى أنه بسبب الفصل 230 يعاني مجتمع الـ “م، ع” التونسي اليوم من انتهاكات جسيمة متعددة ولعل أبرزها الفحص الشرجي (حوالي 121 ضحية فحص شرجي حسب سيف العيادي عن جمعية دمج) الذي يطبق على المتهمين بممارسة “جريمة اللواط”. ولطالما أنكرت الدولة التونسية ذلك في المحافل الدولية، فيما كانت الرابطة التونسية للدفاع عن حقوق الإنسان، المنظمة الوطنية الحائزة على جائزة نوبل للسلام، سبّاقة في تكييفه كجريمة تعذيب وتلتها الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب. وتصل تداعيات هذا التجريم القانوني إلى حدّ اقصاء أفراد مجتمع الـ “م، ع” من التمتع بالحقوق والحريات الأساسية كالنفاذ للعدالة والأمن والصحة، وليس أدلَّ على ذلك – ومن قبيل الذكر لا الحصر- الاعتداءات المتكررة على الناشطة الحقوقية العابرة جندريا “فريفطة” التي، ورغم الصدى البالغ الذي اكتسبته قضيتها ومساندتها من كافة المنظمات الوطنية المدافعة عن الحقوق الإنسانية، رفضت في البداية منطقة الأمن الوطني مرجع النظر في قضيتها مدها بتسخير يمكّنها من التداوي بمؤسسات الصحة العمومية واستخراج المؤيدات اللازمة لإثبات الاعتداء الواقع عليها.
ولا ننسى الحملة الشعواء التي تعرّضت لها المدافعة عن حقوق الانسان الفنانة “رانية العمدوني” (التي حولت منزلها الشخصي الى سكن تضامني للأفراد مجتمع الـ “م، ع”) على إثر مشاركتها في تشييع جثمان المناضلة الحقوقية الراحلة لينا بن مهني. اذ بلغ الأمر حدّ الاعتداء بالعنف الشديد على “إليسا”، إحدى شريكاتها في السكَن، التي رفضت إحدى مؤسسات الصحة العمومية بالعاصمة استقبالها هي الأخرى، وقد تزامن ذل مع حملة تهديد مستمر بالقتل والاعتداء الشديد على وسائل التواصل الاجتماعي.
هذا غيض من فيض معيش ومعاناة افراد مجتمع الـ “م، ع” زمن اللا-وباء، وذلك ما يدفعنا للتساؤل ببساطة:
كيف أثّر فيروس كورونا على هذا المجتمع؟ وكيف كان التفاعل معه؟
كغيره من المجتمعات الهشة وذات الخصوصية تأثر مجتمع الـ “م، ع” بتفشي الوباء العالمي المستجد حيث أثر على أفراده بشكل كبير (استقبل مكتب الشمال الشرقي لجمعية دمج خلال شهر أفريل 2020 حوالي 118 شخص وهو تقريبا يعادل ثلثيْ عدد الذين واللذات اتصلوا/اتصلن بمكاتب الجمعية في كامل تراب الجمهورية منذ جانفي 2019 إلى موفى مارس 2020) من عدة مناطق. اذ وجد/ت الكثيرون والكثيرات من الأفراد انفسهم/ن محالين/محالات على بطالة تقنية، ان صح التعبير، بسبب الحجر الصحي العام والشامل. وعلى اعتبار أنّ أغلبية الافراد يعملون/يعملن في قطاعات هشة وغير مهيكَلة فلم تشملهم/ن الإجراءات الحكومية لفائدة ضحايا الوباء، ولعلنا نخصّ بالذكر عاملي وعاملات الجنس الذين واللواتي أصبحوا/أصبحن في حالة عطالة تامة وأصبح خطر الطرد من المنازل المؤجرة والجوع يتربص/ بهن.
رغم خصوصية وضعية مجتمع الـ “م، ع” إلا أنّ ناشطاته وناشطيه أبَيْن/أبُوا إلّا أن ينخرطن وينخرطوا في المدّ التضامني الشعبي لمواجهة هذا الوباء العالمي المستجد. وهذا ما عبّرت عنه دمج الجمعية التونسية للعدالة والمساواة من خلال انخراطها الرسمي في شبكة التضامن الشعبي – المبادرة الشعبية للتصدي لوباء كورونا ودافعت الجمعية وفي إطار المبادرة على ضرورة إدماج الفئات الهشة في خارطة المستفيدين والمستفيدات من نشاط الشبكة. كما أعلنت دمج عن ندائها للتبرع لفائدة أفراد مجتمع الـ “م، ع” الذين/اللواتي يواجهون/يواجهن وضعيات حرجة وتمكنت بفضل هذا النداء من سداد أجرة كراء مسكن لـ 50 فردًا وتوفير سلة غذاء لحوالي 40 مستفيد/مستفيدة وتم توفير الرعاية الصحية ل 4 أفرد.
لم تقتصر جمعية دمج على الانخراط الميداني في جمع وتوزيع المساعدات. بل أكدت على مطالب مجتمع الـ “م، ع” ودعت في بيانها الصادر بتاريخ 27 مارس 2020 السلطات السياسية ومؤسسات إنفاذ القانون إلى إيلاء الفئات الأكثر عرضة للتأثر بنتائج هذا الوباء (عابري وعابرات الجندر، عاملي وعاملات الجنس، المهاجرون والمهاجرات، المتعايشون والمتعايشات مع فيروس نقص المناعة المكتسب، طالبي وطالبات اللجوء) الاهتمام الذي يستحقونه/يستَحِقْنَهُ واحترام حقوقهم/حقوقهن في النفاذ للأمن والصحة.
ماذا بعد الأزمة إذن؟
يُحيي مجتمع الـ “م، ع” في تونس والمنطقة وفي العالم بأسره اليوم 17 ماي 2020 اليوم العالمي لمناهضة رهاب المثلية وازدواجية الميل والعبور تحت عنوان “كسر حاجز الصمت”. ولعلّ التجربة التونسية هي التجلي الحقيقي لهذا الشعار: إعلاء الصوت بخطاب نضالي وطني وشعبي مقاوم. يحترم الفرد ويجل خصوصياته ويدعو إلى ايفاءه حقوقه واحترام حرياته آخذا في الاعتبار دور هذ الفرد في صناعة التغيير وفي العمل من اجل المجموعة.
إنَّ المتمعن في تجربة دمج خصوصًا ومجتمع الـ “م، ع” يلاحظ أن هذه الفئة ما انفكت تواجه القمع بالنضال والرفض بالإصرار والوصم بالانغراس والتحقير بالفخر، يقودها نحو أهدافها الإيمان العميق بحتمية النصر، وأنّ بعد الليل الصباح وإن كره “الكارهون”.
التحرير: الأراء التي يٌعبَّرُ عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها. ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه من مضمونها.
الهوامش
دمج – الجمعية التونسية للعدالة والمساواة
الفصل 230 من المجلة الجزائية [1]
مجتمع ال “م، ع” في إحالة على مجتمع المثليين، المثليات ومزدوجي ومزدوجات الميل والعابرين والعابرات وأصحاب وصاحبات الميول الجنسية والهويات والتعبيرات الجندرية اللامعيارية [2]
انظر موقف وزير حقوق الانسان في الاستعراض الدولي الشامل لسنة 2017 [3]
تحصلت الرابطة على جائزة نوبل للسلام بمعية الرباعي الراعي للحوار الوطني [4]
مخرجات ورشة الهيئة الوطنية للوقاية من التعذيب والمنظمة الدولية للوقاية من التعذيب مع مجتمع ال “م، ع” [5]