الوعود الدستورية والحق في التعليم: المدارس التونسية بالمناطق الداخلية والأرياف

23/10/2020
Sans titre 34

في الطريق المؤدية للقصرين، أغادر مدينة تونس لأقضي أیام العید مع الاسرة الموسعة. 3 ساعات و نصف تصطحبها أغاني النوستالجيا التي یحبّها والدي.

على حافة الطریق تعودت ان المح اطفالا لم یتجاوز سنهم الخامسة أو السادسة، يبيعون الخبز ( الطابونة)، الخضروات، الازهار: حر اوت (اغسطس) و برد جانفي ( يونيو) لم يمنعهم من مساعدة اسرهم للظفر بقوت عيشهم.

وجوههم لا تزال مطبوعة في ركن من أركان الذاكرة،  اتساءل لليوم عن اي من المنعطفات سلكته قصتهم، عن السخط المغروس في أعماقهم.

كان لجائحة كورونا انعكاس كارثي على الوضع برمته سواء دوليا او محليا، و تاثرت كل الطبقات الاجتماعية و خاصة الهشة منها اقتصاديا واجتماعيا.

غدت القرارات الصادرة عن جل الوزارات مبهمة: من دعوات الى الدراسة عن بعد بالرغم من اهتراء البنية التحتية التعليمية و نقص الموارد اللازمة لارساء مثل مخطط متسرع إلى الدراسة لمدة ثلاثة أیام في الأسبوع لتغلق المدارس نتیجة للوباء المتفشي فيما بعد.

عرت الجائحة الوضعية المهترءة للمدارس في المناطق الداخلية و الارياف، و انتشرت عديد الصور على مواقع التواصل الاجتماعي.

طرق ملتویة شائكة وضیّقة، على یمینها وادٌ قد رحل بأرواح تلاميذ يمثل التعليم العمومي سبيلهم الوحيد للغد الافضل.

و هو ما شهدته مدینة فرنانة حيث لقت الطفلة مها القضقاضي حتفها اذ جرفتها السيول في الطريق المؤدية لمدرستها.

Img
المرحومة مها القضقاضي

فرنانة، احدى قرى ولایة جندوبة المصنفة من بین أفقر الولایات التونسیة جراء ضعف البنیة التحتیة والغیاب الكلي للمشاریع الاستثماریة المتمركزة اساسا في العاصمة و على الشريط الساحلي للبلاد :هي سیاسة اتخذتها الدولة التونسية منذ صبيحة الاستقلال.

“درستُ في ببّوش بعین دراهم”، صرّحت شاهدة قبلت الإدلاء بدلوها في هذا المقال. “مكثت بالمبيت من الإبتدائي إلى الإعدادي نظرا للمسافة المضنیة المؤدية للمنزل. المبیت بحد ذاته لا يطيب فیه العیش، قرابة ال 250 تلمیذة في غرفة كبیرة واحدة وأكل لا یُسمن ولا یغني من جوع.”

ظروف الدراسة القاسية و الوضعية الاجتماعية العسيرة تدفع بالعديد من اطفال القرى الى الانقطاع عن التعليم في سن مبكرة.

من الجلي فهم التوزيع الغير متكافؤ للمدارس في المناطق الداخلية، و عدم توفر الحد الادنى من الامكانيات الضرورية لتحقيق جودة و نظافة المدارس فقد بلغ عدد المدارس غیر المزودة بالمیاه النظیفة من قبل الشركة الوطنیة لإستغلال وتوزیع المیاه والمجامع المائیة حوالى 300 مدرسة، من جملة 2735 أخرى موجودة في المناطق الریفیة والمتمتعة بآبار أو صهاریج میاه كبیرة وفقا لإحصائیات سنة 2014، ممّا اسفر عن تفشي عديد الأمراض كالبوصفیر و الالتهاب الكبدي الفیروسي والجرب.

لم يتم صيانة جل المدارس في المناطق الداخلية منذ تاسيسها، لتغدو ضحية الرطوبة العالية و الامطار المتسللة من الاسقف، علاوة على تسلل الكلاب السائبة، الذئاب و المتحرشين نظرا لغياب الاسوار الحامية لمحيط المدارس. صرّح مدیر المدرسة الابتدائیة بقریة سردینة من معتمدیة السبیخة في ولایة القیروان ، بإطلاق مبادرة في أواخر جوان لبناء سور یحمي التلامیذ من الغرباء والحیوانات: سور لم تشهده المدرسة منذ ثلاثین سنة، مدرسة تجمع، بالرغم من صغر حجمها، ما یقارب الـ 186 تلمیذ موزعین على 5 قاعات.

Fb Img 1603470516465

یُدَّرِسُ الآستاذ الواحد أكثر من مادّة، و صرح العديد في مختلف المقالات عن تغیّبهم عادة لعدم توفر وسائل النقل، علاوة على المستوى المتدني للمدرسين نفسهم خاصة في مجال اللغات الاجنبية على غرار الفرنسية و الانجليزية و عدم توفر معلم معني بتدريس مادة بعينها.

“زاولت تعليمي في مدرسة تقع في قریة لودیات من ولایة مدنین”، صرح أستاذي، “وهي مدرسة شیّدها السكان من مالهم الخاص.” واضاف: “صدقًا، كانت هي المتنفس الوحید. لم تتوفر لنا الموارد المائیة بل فسقیّة تسقي عطش الجميع.  یُدَرِّسُ المعلم الواحد مختلف المواد من ریاضیات وفرنسیة الخ. كانت المعاملة قاسیة وانجرّت عنها أضرار نفسیة جسیمة اما بالنسبة للمجة  فقد كانت قطعة من الخبز بالهریسة وزیت الزیتون أو بالشاميّة والزيت. وبالرغم من الظروف الوعرة  فقد أنجبت هذه المدرسة محامين و اساتذة واطباء.”

Fb Img 1603470439619

ربما  قد يصعب تصديق شهادة استاذي من قبل البعض خاصة في الجزء المتعلق باللمجة التي تقدم للتلاميذ بيد ان رواد موقع فايسبوك استيقظوا على صورة تبرز اعداد معلم  لشطائر خبز من إناء بلاستیكي یحتوي هریسة و سردینة لتلاميذه في مدرسة هنشیر بقر من ولایة القصرین، مما اثار استغرابا و سخطا بين صفوف من تناقلوها ليؤكد تجربة استاذي التي شاركها في هذه المدونة.

بالرغم من التنصيص الصريح في الدستور المؤرخ في 27 جانفي 2014 في الفصل  21 على مبدا المساواة و عدم التمييز امام القانون ” المواطنون والمواطنات متساوون في الحقوق والواجبات، وهم سواء أمام القانون من غير تمييز” علاوة على تاكيد الدولة ضمانها ” للحق في التعليم العمومي المجاني بكامل مراحله” و ” توفير الإمكانيات الضرورية لتحقيق جودة التربية والتعليم والتكوين” في الفصل 39 من دستور 2014 ( كل من الفصول 22،23 و 44 من الدستور الحالي المؤرخ في 25 جويلية 2022)، تقبع مسالة الوضعية المهترءة للمدارس في المناطق الداخلية  و التي لا ترتقي للمعايير الدولية على الرف.


إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.

مقالات ذات صلة

  • حتى لا يسقُط البلد بعد الجدار…

    اهتزّت تونس في الأيام الأخيرة لوفاة التلاميذ الثلاثة إثر سقوط جدار معهدهم المتصدّع بالمزوّنة. رحم الله عبد القادر الذهبي وحمودة…

    بلا حياد

    Ghassen mazounna final
  •  ليس نظاما للتّفقير، بل نظاما لليأس من الحياة

    ستون دينارا بحالها، ما نقصن وما زدن . ذلك هو القسط الأول من المساعدة الرمضانية التي تقدمها الدولة لضعاف الحال.…

    بلا حياد

    Adel hamdi
  • عمّ علي: سطر ضائع في كتاب الحياة

    يُعتبر عمّ علي (84 عاما) واحدا من أقدم بائعي الخضر في "مرشي طريق حفوز"، القائم في الضاحية الغربية لمدينة القيروان.…

    بلا حياد

    blank
  • افتتاحية | 2024: سنة احتضار السياسة

    اعتدنا الكتابة والتّعليق على مستجدّات السّياسة في معناها العام والواسع. ومع انتهاء هذا العام، نجد أنفسنا نكتب عن غيابها أو…

    افتتاحيّة

    blank