بقلم حسان موسي
الشتاء الثوري – ج1 – الليلة الأولى
شتاء ساخن في صقيع الليالي الباردة لشهر جانفي من كل عام! الأمر تعدى كونه عبثية “مجموعات تخريبية” خرجت ذات مرة، مساءً، سنة 2012 لإحياء ذكرى الثورة بنهب المحلات التجارية والشركات والبنوك، أقصد “ذريعة” الاحتجاج المشروع للسطو والسرقة. الأمر بات “تقليدا سنويا” مبهرجا/صداميا، أقصد ما يشوبه كل مرة من ألعاب نارية وقنابل غازية، وأصبح ظاهرة لا تجد لها الأطراف السياسية – التي صدعتنا رؤوسنا بنداءات الإصلاح والثورة – حلا ولا تفسيرا ولا سبيلا للانخراط فيها واستغلالها، بل أجزم أن هذه الأيام باتت “ميقاتا” لقيام “الهبة الشعبية” للتعبير عن السخط والحنق والغضب المكظوم والرغبة الدفينة في تغيير الواقع الجحيمي المعيش واستبداله بواقع أقل “جوعا وكدحا وضيما” وأكثر “شبعا وكرامة وحرية“.
كل “جانفي” من الأعوام التي تلت عام “الثورة المجيدة” تخرج جحافل المحتجين في أنحاء متفرقة من البلاد وفي قلوبهم يحملون “دافعا واحدا.”
عشية اليوم، تحدثت مع بعض الشبان الذين أعلنوا عن رغبتهم في “النزول” الليلة لساحة المعركة التي لاحت في الأفق، من جهة استعداد الشباب ومن جهة استنفار الأمن Voilà وكانت إجابتهم وأقتبس عن أحدهم “خاطر فدينا ولازم نتحركوا ونعملوا حاجة!”
هذه الكلمات حبلى بالمعاني والمشاعر وأصدق تعبيرا من خطاب “رئيسِ حكومةٍ” أو خطاب “نائب في البرلمان” يهجوا في تدوينة فيسبوكية أحداث الليلة وعنفها لأنه “يأمن بالحل السلمي والحوار ويرفض العنف والإعتداء على الأملاك الخاصة والعامة
أعتقد أن الهوة بين الساسة والمواطن اتسعت لتصبح أكبر من ثقب الأوزون! وهو ما يصعِّب مستقبلا إمكانية الحوار والتفاهم السلمي ويرجح إمكانية الإنفلات والعنف والثورة!
اذن، المحتجون هم الشعب الذي ضاقت به الدنيا بما رحبت ويحتاج متنفسا ولا يجد غير البوليس ليصب عليه جام غضبه خاصة أن القلوب ماتزال محملة بالشحناء والمقت من الممارسات البائدة لهذا الأخير في حق هذا الشعب ولا تزال كثير من هذه الممارسات “جاري بها العمل ” – راعي سليانة – شاهد أخير عليها.
يخرج المحتجون يحملون في قلوبهم “إرادة الحياة” ورغبة “الإنعتاق” من ربقة الظلم والغبن المسلط على حيواتهم فيما يتقاسم حفنة من “أسياد” البلاد وساستها وأرباب المال والأعمال، “يتقاسمون السلطة والثروة” ضلما وعلوا.
لو أجرينا بحثا اجتماعيا مشفوعا باستبيان، لوجدنا أن غالبية المحتجين لا يزمعون عند انخراطهم في الحراك الإحتجاجي الليلي “السطو على المحلات والشركات والبنوك” على الرغم من أن قلة من بينهم يبيتون العزم على أن يعرجوا بالزيارة على “عزيزة والموزع الآلي للبريد التونسي” وغيره ما يجر الحركة الإحتجاجية إلى مسار التخريب والسرقة ويحيد بها عن كنه التحرك. وأجزم أن التحرك لو حافظ على سلميته سيبوء بنفس النتيجة لأن البوليس “قد جمع لهم” لاعتراض المسير وقمع الحراك ووأد ما يمكن أن يغدو “ثورة” في مهدها خدمة لمصالح الآنف ذكرهم.
اللافت للنظر، الصمت الرئاسي والتجاهل الحكومي لما يحدث! كذلك غياب التنظيم والقيادة والقادة – ناس تأطر وتوجه وتحول دون تحويل وجهة الحراك لعزيزة ثم منازلة البوليس في “لعبة كر وفر حتى مطلع الفجر” والحفاظ على جوهر الإحتجاج ومشروعيته وأعتقد أن السنوات القادمة سيكون “شتائها أكثر سخونة وبهرجة من شتائنا هذا ولا أرى سبيلا للإصلاح أو الحوار الذي قد ينبنى على أساسه العدل ورد الحقوق على شعبها وربي يقدر الخير.
الشتاء الثوري – ج2 – الليلة الثانية
مزقت أصوات قنابل الغاز المسيل للدموع وأصوات الحشود المتظاهرة في ساحة المعركة صمت الليلة وشوارعها.
جولة أخرى من النزال لعبت الليلة بشكل أكثر بهرجة وشراسة!
كنت قد تنزهت في ميدان المعركة هنيهات قصيرة لحظات قبل المواجهة الضارية للبحث عن “ولد حومتي” بطلب من والدته، الذي انخرط في المشهد “العنيف حد الصدمة” ولم يتعدى عمره ال14 ربيعا!
على طول الطريق، شارع ابن خلدون وشارع 14 جانفي (105)، كنت تلمح شبابا في مقتبل العمر، 18-35 سنة وما دونهم أطفال في أعمار 12-16 سنة وكهولا 40-50 سنة في الساحة ورؤوس الأنهج!
ما يشد الناظر كذلك، ما يحمله بعض المتواجدين، أسلحة بيضاء ومولوتوف وعلب شماريخ – لإضفاء أجواء حماسية على اللعبة أو لعلها للاحتفال عقب النصر إن تمكّن لهم – في الحقيقة استنجاد المتظاهرين بالشماريخ يأتي ردا على تحديث القوات الأمنية لعتادها وبغية موازنة القوى بين الطرفين وهو ما يطرح سؤالا جديا، ما الذي سنراه في المستقبل؟ وإن غدا لناظره لقريب!
لاحقا تم استعمل الموارد المذكورة في المعركة، بلا هوادة، وبكل بهرجة واستماتة في مواجهة مدرعات الأمن الوطني الذي بدوره كان قد تجهز، بكل حزم، لقمع الجموع المتظاهرة بلا هدنة ولا استكانة!
لأواصل في تحليل المشهد أو “تحليل الواقع” لأن من لا يحلل الواقع لا يمكن أن يفهم ما يدور حوله في بلاده ووطنه!
منسوب العنف الهائل إن دل على شيئ فإنه يدل على حجم العنف المسلط على الفئات السالف ذكرها والتي بدورها مارست العنف بكل عنفوان وسطوة متى ما واتتها الفرصة، وهذه الأيام مواتية للإنفلات والعنف والثورة وكلنا نعرف في الفيزياء القاعدة “لكل فعل رد فعل مساو أو أكبر في القوة” يعني أن هذه الشرائح تعاني في الأيام العادية وطئة عنف هائل مادي ومعنوي والدلائل موجودة للناظرين!
اللافت للنظر هو انخراط القصّر في تيّار العنف واعتناقه بكل ارتياح ونشوة! حكيت في مقال آخر كيف أنه أيام الثورة الأساتذة في المعهد هم من كان يفهمنا ويأطرنا وينصح لنا، اليوم بعد عشر سنين من الثورة نجد المنحرفين وأصحاب السمعة الإجرامية “قدوة” و”قادة” للصغار فيما كان من اعتداءات وعنف ولصوصية. تلك المشاهد وإن كانت صادمة للبعض فإني أجدها منطقية بالنظر إلى الوضعية المأساوية للمنظومة التعليمية_التربوية والمنظومة الأسرية!
نأتي بالذكر على كبار القوم، من قاد الإحتجاج الليلة، لأن الفرصة كانت “مثالية”: 1- تمتعهم بالحرية في وقت – لا أعرف – أغلبهم ينتمي خلف القضبان! 2- غياب القادة والقيادة في التحركات الإحتجاجية في مختلف المناطق! 3- والإنفلات الأمني ما يعني شيئان، الأول امكانية السرقة والنهب والثاني امكانية الثأر ورد الدين للبوليس الذي سيكون حاضرا بكل تأكيد، فالعين بالعين والسن بالسن والعنف بالعنف!
الآحداث الجارية تطرح سؤالا فارقا “وما أدراك أنها ثورة؟!” – حسنا! إنها ليست ثورة!
ليس العنف الذي شابها ما يعيبها وأنا أدينه وقد استفضت في شرح مأتاه وأسبابه، وليس لأن الإحتجاج كان ليلا، أذكر أنه زمن الثورة ناس تروح من خدمها وبعد نستنوا حظر الجولان وخطاب الرئيس للخروج وإعلان العصيان وليس لأنه غاب عنها القادة والقيادة ولكن هي ليست ثورة لأن ليس لها قضيةً وجوهرًا!
تنبأت البارحة أن البهرجة ستكون أكبر في الصدامات القادمة بين الأمنيين والمتظاهرين، لكن لم يكن في حساباتي أنها ستكون الليلة والإبداع في المعركة حد استعمال الشماريخ لمواجهة الأمنيين – الذين أرجو لهم السلامة – لأن ما يلقونه رغم أنه نتيجة أخرى متوقعة لسالف الوضع الذي عشناه وما بدر منهم على امتداد عقود مديدة وحتى أيام قليلة ماضية، فإنه للأسف تهديد لسلامتهم الجسدية ويهدم الثقة والسلام بين المواطن والأمني ويفرض إعادة المحاولة حتى يأتي جانفي القادم وينسف المحاولة نسفا أو يعاودنا أحد الزملاء باعتداء صارخ على أحد الرعاة أقصد المواطنين وفسخ وعاود من جديد، وكأن قدرنا أن نعلق في هذه اللعنة الأبدية حتى يفنى شبابنا!
أعود إلى جوهر ما يحدث، الوضع الإجتماعي والإقتصادي المزري حد القرف والألم والجوع وخاصة على الشباب، يدعو بصوت يأن يأسا وقهرا إلى ضرورة الإصلاح والحوار وتغيير المنظومة جذريا ومعها الوجوه الحاكمة بشكل موسع ومراجعة سياسات الدولة الأساسية في الاستثمار والشركات الأجنبية ورأس المال والمؤسسات الكبرى في القطاعين الخاص والعام والمنظومة التربوية_التعليمية والمنظومة الأمنية وما غير ما نذكر قطاع الصحة – تونس الكل تعرف – وايلاء قضايا الشباب ومشاكلهم العناية الازمة. انتهى بي المطاف بذكر كل شيئ!
هذا الوطن لن يستجيب القدر ما دام القيد لم ينكسر، والقيود كثيرة، ذكرت منها ما تبادر إلى ذهني، وليل هذه البلاد لن ينجلي حتى تنجلي الهموم والأحزان بإنجلاء مسبباتها: المصعد، ملعب كرة القدم، الطريق المعطوبة، الروڨارات.. ومن ورائها المسببات الحقيقية: الفساد والمخدرات والسياسة الرديئة والإعتداء على المواطن والحريات والتنمية والتشغيل.. وأخشى أن الزمن لن يمهلنا أكثر قبل أن نخسر ما لا يمكن تعويضه ويبدو أن الشعب اتفق على أن الوضع يحتاج رجالا صدقوا ما عاهدوا عليه وربما يحتاج ثورة!
الشتاء الثوري – ج3 – الليلة الثالثة
غضب الشارع
لم يكن في حساباتي أن أكتب الليلة لكن ما شهدته في منذ لحظات في الشارع يحتاج أن يدوّن وما يعتمل في صدري من مشاعر أحتاج أن أبثه في كتاباتي. كان الهدف من نزولي الليلة استجواب ما أمكنني من الشباب المتظاهر للوقوف على دوافعهم الشخصية للانخراط في المعارك الدائر رحاها بساحة العلاّمة ابن خلدون – مدخل مدينة التضامن. نجحت في التواصل مع 6 أو 7 أفراد – لا أعرفهم – رغم الي حومتي، توجهت إليهم بالسؤال التالي “علاش خرجت؟! علاش تتظاهر؟! شنية تحب؟! علاش تكسر وتضرب في الأمن؟!” لم أنجح في تسجيل الإجابات لرفضهم أن أسجل المحادثات لكن الإجابات قد لفظت بالفعل.
لا أخفيكم أن الإجابات لم ترق لي وقد تفنّد كثيرا مما كتبته وآمنت به لكن خلف بساطتها و”سفاهة اللغة وقبحها” تجد كنه ما يحدث. أحدهم أجاب وأنقل عنهم: “ما نعرش علاش، أكاكة” وآخر أجاب “خاطر حكومة م**كة ولازم نحاربوها” وثالث أجاب “جروا عليّ – بمعنى مروا علي – لولاد هبطت معاهم” وآخر “هبطت نضرب مع الرجال، ما نخليهمش للحاكم وحدهم” وآخر “نتسهوك في حومتي ما عندي حتى شي” كذلك عبر أغلبهم عن رغبتهم في التظاهر ومبارزة الأمن (الإنخراط في مواجهة عنيفة مع الأمن) وأنه ليس في نيتهم السرقة واقتحام المحلات “هذه حومتنا مناش سراق”، “هبطت بش نضرب مع لولاد مش بش نسرق، ما سرقت شي وما كسرت شي”،” نحن عباد نظاف مناش جواعة، الي يسرق أمورو ما على بالي بيه” وغيرها من الإجابات. كذلك طرحت سؤالا “علاش الخروج بالليل؟” فكانت الإجابة “فقت لعشية مشيت حذا لولاد وبعد هبطنا” و”نخدم، نمشي في الظلام ونروح في الظلام” وأيضا “بش الحاكم ما يسمرناش (بمعنى يشوف وجوهنا)” وأعتقد أن هذه الإجابة الأخيرة هي السبب وراء تهشيم كاميرا الطريق العمومي بمفترق الشابي.
كما لا يخفى أن جموع المتظاهرين خاصة مع تقدمك نحو طليعة المواجهة، تجدهم يحملون الأسلحة البيضاء والحجارة وأحصيت عددا من زجاجات المولوتوف.
أجزم أن هذه التفاصيل مشتركة بين مختلف المناطق التي تشهد تحركات احتجاجية وبين المحتجين هنا وهناك. تحمل دلالات واضحة مفادها أن رتق الهوة بين الأمني وشباب الأحياء الشعبية لم يتم! وأنّ الغضب العارم الدفين هو وقود الاحتجاجات، ويجري فيهم – المحتجين – مجرى الدم من العروق “ادرنالين خاصة كي نزيد نشم الغاز” على حد تعبير أحدهم! وأنّ الشارع ميدانهم الذي يعبرون فيه بطريقتهم – غير السلمية – على ما يكابدونه ويخالج قلوبهم ولا يعرفون غير “هذه الطريقة” ولا يفقهون غيرها ولا يجدون غيرها. كما أن نيتهم في ممارسة العنف مؤكدة ومعلنة وتتجه صوب قوات الأمن – ماتادور السلطة – فيما يبيت آخرون العزم على اقتحام المحلات التي لا ترجع بالنظر إلى معارفهم وأولاد حومتهم، عزيزة الإختيار الأقرب. والملاحظ أن من يطرح فكرة السطو والإقتحام لاستمالة أكبر عدد من المحتجين المتواجدين في الميدان، هم من أصحاب السوابق الإجرامية ويبيعوا في أنواع مختلفة من المخدرات والشراب – كبارات – على حد وصف أحدهم.
المشهد العنيف والواقع الملخبط هو نتيجة مؤسفة لعقود من الزمن قبل وبعد الثورة لم تتغير فيها الأوضاع الإجتماعية والإقتصادية بل زادت في انحدارها نحو الحضيض. ثم إن القطيعة بين الدولة وشعبها في الأحياء الشعبية وربما أبعد من ذلك تفاقمت واختلطت بمشاعر الإحباط واليأس وخيبة الأمل فأنتجت في صفوف الشباب وما دونهم وعيا مشوها غير سياسي – ينبذ السياسة – ولا يؤمن إلا بالعنف نهجا وغاية “نعبر كيما نحب في بلاد كل واحد فيها يعمل اش يحب”.
مدينة التضامن الليلة كانت مسرحا لأحداث هي الأكثر عنفا وشراسة بين المدن والأحياء، جعلت منها قبلة العديد من القنوات التلفزية ووسائل الإعلام المحلية والأجنبية، تهافتت لنقل الخبر وتغطية الحدث وممارسة الإعلام الرديئ الذي يجيدونه بحرفية. كما أن كل الإعلاميين نقلوا الخبر من زاوية واحدة، من جهة واحدة، في شارع واحد، من خلف مدرعات الأمن الوطني. ما أريد قوله أن مدينة التضامن وسكانها عانوا دهرا من الوصم والتشويه واليوم سيعانون أعواما إضافية لأن ما يحدث نقطة سوداء في الصفحة البيضاء.
ختاما أعرج بالذكر على منتسبي الأحزاب السياسية بالمنطقة الذين تباينت مواقفهم بشأن ما يحدث، أحدهم دعا إلى استعمال “الكرطوش الحي”! وآخر يقوّد للأمن والبقية بين معارض ومساند حسب موقعه من السلطة.
خسئتم متى بعتم ضمائركم وتنكرتم لوطنكم وشعبكم! سيأتي يوم تشرق فيه الشمس على الحقيقة وسيبصر الشعب الحقيقة ويأخذ بها ولن يرحمكم! ولكم فيمن سبقكم عبرة، لا بد للحقيقة أن تتجلى ولو بعد حين ولا بد للثمن أن يدفع طوعا أوكرها!
التحرير: الأراء التي يعبّر عنها في مقالات الرأي تلزم أصحابها، ولا يتحمّل فريق تحرير الموقع أيّ مسؤولية عنها، بغضّ النظر عن موقفه منها.