رأيْ| الجرابة: سفينة الأموات الملقاة على ساحل مهجور

11/06/2023
Adeeel Hamdi Articl

بقلم عادل الحامدي

كاتب تونسي أصيل ولاية القيروان، صدرت له خمس روايات، وهي ‘الأخدود الذي صار نهرا’ سنة 2018، ‘أرغفة الذلّ’ سنة 2018، ‘سبب للحياة سبب للموت’ 2019، ‘وحيد الساق’ سنة 2020، ‘سفر الى الينابيع’ سنة 2021.


 يبدو دكان الشيخ محمد بن سلامة الواقع في بداية نهج محمود مالوش، في قلب ما كان يُسمّى إلى وقت قريب ’المنطقة الحرفية – الجرابة‘ في وسط المدينة العتيقة في القيروان (المحافظة الواقعة في وسط تونس على مسافة 160 كلم جنوب تونس  العاصمة)، لأول وهلة دكانا عاديا مثل غيره من الدكاكين. بل ربّما عُدَّ واحدا من أصغرها حجما، ولا شيء في معماره أو مظهره الخارجي يميّزه عمّا حوله أو يثير الإنتباه. لكن ميزته بالنسبة لي كانت أنه المحلّ الذي تعلّمت فيه حرفة النسيج اليدوي واشتغلت فيه لمدة ثلاث سنوات في النصف الثاني من الثمانينيات من القرن الفائت.

كان رجلا فنانا أكثر منه حرفيا ماهرا

عشرات المحلات، على يمينه ويساره، كانت هي الأخرى تمارس نشاط النسيج اليدوي ويعتاش منه أصحابها، لكنّ الفرق بين الشيخ بن سلامة والبقية كان إيمانه الراسخ بأنه لم يكن يشتغل بحرفة بقدر ما كان يمارس فنًا من الفنون. اذ كان يعتبر النسيج اليدوي على النول التقليدي المصنوع من الخشب فنا من الفنون الراقية، وقد طبّق على نفسه هذا المبدأ والقناعة بشكل صارم، فلم يسمح لأي نزوع أو استعجال ربحي تجاري أن يشوّه غرامه بذلك الفن ولا عن إجادة نسج كل قطعة كانت منشورة على نوله. كانت منسوجاته للحق غاية في الإتقان والجمال. ولو تطلبّ منه إنهاء واحدة منها أسابيع بحالها.

قفزة واحدة في المجهول

لم أكن أعرف أنّ الفضول الذي استبدّ بي مؤخرا لمعرفة ما آلت إليه حال الدكان من الداخل، بعد أزيَد من 35 عاما على مغادرتي له، سيفتح عيناي على حقيقة مريعة.

ظللت لسنوات طويلة – بداية من منتصف العقد الأول من هذا القرن – أرى الدكان مقفلا بشكل دائم، مثله في ذلك بقية الدكاكين في المنطقة إيّاها، والصدأ شرع يعلو قفل بابه الحديدي الأخضر، ونافذة بلورية صغيرة شبه مطموسة في أعلى جداره الشرقي مشبّكة بالحديد وقد فقد بلورها لمعانه وشفافيته بفعل تراكم الأوساخ والأغبرة. في واحدة من دوراتي الفضولية حول الدكان لحظتُ شرخا صغيرا في أسفل طرف النافذة، وفكّرت أنّ ذلك الشرخ سيتيح لي – لو قمت بقفزة صغيرة – بطريقة من الطرق إرواء فضولي، فألقي نظرة صغيرة وأحيط بتفاصيل المكان من الداخل بعد عقود من هجره وإغلاقه النهائي. وفعلا فعلت.

تغلّبت على تردّدي وقفزت قفزتي الصغيرة مغتنما الخلوّ الكلي للنهج من السابلة، فبلغت المشبك وتعلّقت بالحديد ورفعت جسدي قليلا فبلغتُ مستوى النافذة تماما. ومن هناك أجَلْتُ بصري، فكان ما وقع عليه شيئا مريعا : لا شيء في الداخل غير الظلام والحطام وظلال الموت الموحشة تخيّم على كل زاوية بلغتها عيناي داخل الدكان المقفر.

الجميع سواسية

ليس دكان الشيخ بن سلامة وحده من صار إلى هذه الحال الأسيفة، فضاءً صامتا مظلما تعمّره الجرذان والأرواح الشريرة، وأحيانا بعض المنبوذين من المجتمع يتخذون من بعض الدكاكين ذات الأبواب المتصدعة ملاذات لجوء وفي جوّ العزلة والتناسي يعيشون في الأعماق المظلمة للمحلات المهجورة. جميعها، على يمينه ويساره في المنطقة الحرفية، لا تختلف في شيء عنه. وربما كان حالها أسوأ، فبعضها بدأت جدرانها بالتداعي.

المدينة الاولى

وهكذ فإن الجرابة، المنطقة الحرفية التي اختصت لعقود طويلة في نشاط النسيج اليدوي على النول والملقاة في قلب المدينة العتيقة في مدينة القيروان، بجغرافيتها التي تمثّل مربّعا طول كل ضلع من أضلاعه الأربع مائة متر، وداخل ذلك المربع تمتد عديد الأزقة الضيقة الملتوية، وعلى جانبي كل زقاق تصطف دكاكين النساجين المقفلة بعددها الذي يقرب من الستين حانوتا ، تبدو بعد أن هجرها الجميع من حرفيين وحرفاء، أشبه بسفينة محملة بالأموات ملقاة على ساحل مهجور. الساحل المهجور ليس غير مدينة القيروان برمّتها، المسمّاة بالعاصمة الروحية لتونس ورابعة الثلاث، لكنّها منسية ومُسقَطة من حسابات مركز الحكم في العاصمة، فهي بذلك تتصدر أعلى نسب البطالة والأمية والفقر والإنتحار.

تاكيلا ومحاولات للنسيان

أحيانا تعثر على دكان أو اثنين بابه مفتوح بشكل موارب، لكن لا منسج ولا شغل فيه. من المضحك المبكي تصور أمر كهذا الآن. تقوّض كلّ شيء في الداخل واتخذ المحل بعض اليائسين منقطعي الرجاء من هذا العالم فضاءً لتصنيع مشروب التاكيلا (سنتحدث عنها في فقرة لاحقة بتفصيل أكثر )، الأداة المثلى المعينة على النسيان، وتوزيعه في الجوار  كذلك.

رجل يعيش في فلك آخر

رغم الحقائق المريعة التي طرأت منذ عقود على حياة منطقة الجرابة وحولتها إلى قفر يباب، فمازال هناك على الأقل شخص واحد في الحارة  يرفض الانجراف معها ولا يسمح لشيء أن يفسد عليه الوتيرة الحياتية التي اعتاد عليها منذ ما يقرب من  نصف القرن. هو الشيخ عثمان، الذي لا يزال يواظب في اصرار مدهش، على الإستيقاظ مبكّرا كلّ صباح كعادته، ثم يرتدي جبّته القديمة ويشق طريقه، بداية من منزله قرب جامع الزيتونة في ’القرقابية‘ عبر أزقة المدينة العتيقة وحواريها حتى يبلغ دكانه القديم في نهج محمود مالوش، غير بعيد عن دكان الشيخ بن سلامة؛ فيقوم بالمراسم المعتادة : يفتح دكانه ويكنس داخله والفضاء الذي أمامه، ويرشّه بالماء فيصير نديًا، ثم يضع محبس ’الحبق‘ على العتبة بعد أن يسقيه القليل من الماء، ويدخل بعد ذلك فينفض الغبار عن نوله المتهالك الذي فقد أغلب قطعه، ويمسك بعدها بـ ’المكوك‘  ويشرع بتحريكه جيئة وذهابا، مقلّدًا عملية حياكة حقيقية، ويظلّ كذلك حتى يغلبه النعاس، فينام حتى ساعة الظهر في مكانه. ثم يستيقظ ونثر من الدموع يكلّل عينيه.

جذور التسمية

ليس من الصعب تقصي جذور الإسم : الجرابة. أكثر الروايات ترجيحا تذهب إلى أنّ بداية الجرابة تعود لمستهلّ القرن العشرين، عندما هاجر بعض النسّاجين المهرة من جزيرة جربة  وحطّوا رحالهم في مدينة القيروان، إمّا بحثا عن توسع في السوق أو فرارا من حالة كساد، فأقاموا في المدينة العتيقة وشغلوا بعض المحلات هناك ومارسوا حرفتهم، فمثّلوا نواة لما سيسمى فيما بعد المنطقة الحرفية ’الجرابة‘.

الدكاكين والأنوال

عدد الدكاكين يقرب من الستين، كلها مصطفة ومتراصة  الواحد بجانب الأخر في حواري الجرابة. لكنّ عدد الأنوال بداخلها أكبر من ذلك القدر. في دكان بن سلامة شديد الضيق مثلا هناك اثنين من الأنوال مثبّتيْن بشكل متعامد . وفي بعض الدكاكين الأوسع مساحة – وكلّها مسقوفة بالأعمدة – لا يدخل في تركيبة سطحها لا حديد ولا اسمنت، قد نعثر على أربعة أنوال أو حتى خمسة… فبوسعنا تقدير عدد العاملين على الأنوال كلها بما يتراوح بين 150- 180 عامل نساج، وما يماثل هذا العدد من العائلات.

تلك ايام ..ثم جاءت بعدها أيام

عرَفَت منطقة الجرابة أوج ازدهارها الحرفي خلال العقود الثلاثة الممتدة من مطلع الستينيات حتى نهاية الثمانينيات. مثّلت طوال تلك العقود حالة احتفالية فريدة في مدينة القيروان، شكلتها المنسوجات البديعة ذات التلوينات المبهرة. وطوال تلك العقود كان من النادر أن لا تجد عائلة قيروانية قام نسّاجو الجرابة بحياكة غطاء صوفي أو أكثر لها لوقاية أفرادها من برد الشتاء. الغطاء الصوفي (يسمّى ’العبانة‘ ) كان الغطاء الأساسي لكافة العائلات عند النوم في المدينة، وفي أريافها كذلك.

غطّى النشاط الحرفي طيفا واسعا من المنسوجات، فكان هناك النسّاج المتخصص في حياكة الغطاء الصوفي، وآخرون في نسج ’الحايك‘، الذي كان اللباس الرسمي لنساء القيروان حتى أواخر الثمانينيات، ويتمثل في غطاء حريري أو صوفي رقيق يميل لونه الى الصفرة تسبله المرأة على جسدها فيغطّيه كله باستثناء عينيها. وصنف ثالث يختص بحياكة البرنس والقشابية، وقد يجمع بعض النسّاجين بين أكثر من تخصّص فيقال فيهم عندها أنّهم “حوكي  وحرايري”.

كيف كانت تتمّ المعاملات؟

في أقصى الجهة الشمالية من الحارة هناك ساحة فسيحة كانت تقام فيها سوق للأصواف كل يوم سبت. لم يكن النساجون يستغلّون هذه السوق لبيع منسوجاتهم. فالنساجون لم يكونوا تجارا ولم يكونوا يبيعون أو يشترون … ويَعتبرون القلّة الشاذة من النساجين الذين يقومون بحياكة الأغطية وبقية المنسوجات للإستغلال التجاري “أصحاب شغل سواقي” – منتوج منخفض الجودة أو منعدمها، مسيء لسمعة أهل المهنة، منسوجات ساقطة مخالفة للأسس المتفق عليها للنسيج المُتقَن المُعتَمَد.

جلّ مرتادي السوق كانوا من الرجال والنساء القادمين من الأرياف. يقدمون إليه لبيع مادة الصوف أساسا، سواء في حالتها الخام أو وهي مغزولة خيوطا صوفيه رقيقة صالحة للنسج (يسمّونها ’طُعْمَهْ‘). كانت المعاملات غالبا تتم هكذا : يشتري الفرد أو العائلة الراغبة في الحصول على غطاء المادة الأولية من السوق ويتوجه بها إلى أحد محلات النسّاجين، فيتفق معه على مواصفات القطعة التي يرغب فيها ويحدّدان الثمن عبر مفاوضة بسيطة. ويطلب النسّاج مهلة أيام أو حتى أسابيع –مع اعتبار الأولوية لمن قدّموا طلبات قبله – لإنهاء المنسوج. وهكذا تتم العملية في جوّ من الشفافية التامة. وصانع النساج، أي العامل عنده والقائم فعليا على عملية النسج، كان ينال شطر الثمن. كان العمل مرهقا للغاية، لكن الغلاء وقتها لم يبلغ الدرجة الكاسحة التي بلغها مؤخّرا. ولدى العمال عديد الطرق لمغالبة مشقة العمل، وخلق أجواء من المرح أثناءه ، فكانت الأوضاع مقبولة إلى حد ما. 

نساجون وسكارى

وللتخفيف من قسوة ظروف العمل وإرهاقه يلجأ  العاملون على الأنوال لشرب الخمر. في الليالي الرمضانية تمتلأ الدكاكين بصوت الدقّ والطرق على النُول، وكذلك بالسكارى… الجميع يسكرون، لكن رغم إدمانهم الخمر كانوا يخرجون بمنسوجات غاية في الجمال والإتقان، بل يبدو الخمر محفزا قويا لهم للإبداع، وقد يجلب آخرون صديقاتهم في آخر الليل. لكن من الصعب الحديث عن وضع دعارة مؤكد في الحارة.

العقل الديني الهارب من الحقائق

في بعض الدكاكين الأخرى التي يتسم أصحابها بالورع، مثل دكان الشيخ بن سلامة، قد يفاجأهم أحيانا الشيخ عبد الرحمن خليف (1917-2006)، الوجه الديني المعروف في القيروان، بزيارة غير متوقعة. كانت هذه الزيارة تتخذ صبغة مسامرة رمضانية، لكنها لم تكن في الحقيقة غير حصة من الإستماع لمواعظ الشيخ وتوجيهاته. وكان الشيخ، بثقافته  الدينية وتفكيره السلفي وخلفيته الطبقية – كونه ينتمي لبورجوازية القيروان –، أبعد عن أن يتلمس بوادر وضع الإنهيار المحتوم الذي كانت تسير نحوه الجرابة. وقد بدأت شقوقه تظهر على جدرانها مع بداية مرحلة الإصلاح الهيكلي في النصف الثاني من الثمانينيات. وذلك مع صعود نظام زين العابدين بن علي المنقلب على بورقيبة، وانصياعه لمطالب صندوق النقد الدولي بالسماح بخوصصة واسعة لعديد القطاعات والانخراط في السوق الحرة، ودعم الرساميل وتقليص الإنفاق الإجتماعي. بدأت جدران الصدّ والمقاومة، ممثّلة في نظام حرفي  تقليدي لدرجة تقرب من البداوة،  تتداعى، والدكاكين بالإقفال الواحد تلو الآخر جراء سياسة الانفتاح الاقتصادي وفتح السوق لمنتوجات تركيا والصين وإقبال الناس عليها بسبب جمالها الصناعي ورخص أسعارها.

ومن جهة ثانية، تم استكمال اجراءات تفقير الأرياف وتقويض أسس حياة المرأة الريفية، فاندثرت عادة تحويل الأصواف عبر غزلها، الذي كان شغلا نسائيا صرفا، وصار من المعتاد جزّ الخرفان ثم التخلّص من الأطنان من صوفها كيفما اتّفق.

كان بالامكان الالتجاء وقتها لماكينات غزل وتحويل الاصواف آليا، وفعلا كان في مدينة القيروان لحد مطلع الألفية ثلاث أو أربع ماكينات لغزل الصوف، لكنها كانت بعيدة جدا عن أن تقدّم خدمة الغزل بنفس الإتقان الذي تقوم به النساء يدويا. كان غزلها رديئا جدا وكميات كبيرة من الصوف كانت تقوم بافسادها بدلا من غزلها، ما جعل الناس يهربون منها. ولم يُعْنَ أحدٌ من أصحابها بتجديد آلاتها وتحديثها، فأقفلت كلّها غير مأسوف عليها ونالها نفس مصير دكاكين الجرابة.

مصير كارثي

بوسعنا إدراك حجم الكارثة التي تعرضت لها المنطقة الحرفية في الجرابة عندما نستوعب معنى الإقفال الكلّي لجميع الدكاكين القائمة على جانبي الساحة التي كانت سوقا. كلّها عدا واحدًا أو اثنين منها لا يزالان يقاومان الإنهيار بمحاولة التنويع في المنتوج، وتبديل طابع النشاط من حِرفي منتِج لتجاري تسويقي، ودكان ثالث اتخذه صاحبه محلا لتصليح الدراجات النارية… في قلب الساحة اياها التي كانت مهرجانا للتلوينات اليدوية الجميلة المبدعة، ونرى اندثار كل ذلك الإبداع والجمال في خضم الضجّة المريعة للدراجات النارية المعطوبة ودخانها المخنق.

تحدَّد تعامل السلطات المحلية في القيروان مع وضع الدمار الذي أمست عليه الجرابة على مستويين : مستوى اللامبالاة التامة بما يحصل هناك، وترك اليائسين يَغيبون ويغالبون يأسهم في مشروب ’التاكيلا‘، ذاك الذي يصنعونه هنا  بشكل بدائي وقد يستحيل أحيانا الى مشروب سام، ومستوى العجز عن القيام بأي إنقاذ مهما كان بسيطا. وذلك باستثناء عملية دهن للجدران تحصل مرة كل خمس سنوات، أو تبليط متسرّع لأرضية الحارة سرعان ما تنكشف عوراته. فرياح التحولات الهيكلية كانت تهبّ بكامل هيجانها، لتجرف نحو قيعان الفقر ليس الجرابة فحسب، بل القيروان برمّتها.

كلام عن التاكيلا مرة أخرى

 يتم صنع التاكيلا  باستخدام آلة تقطير الزهر، بعد أن يتمّ تخمير الخضر والغلال (بسباس وسكّر مثلا)، ثم يقع تقطير هذه المواد، وبعد حوالي أسبوع أو اثنين تتحصل على مشروب مُسكِر تفوق نسبة الخمر فيه النسبة الموجودة في البيرة (الجعة).  وكما نعرف، القيروان مدينة محافظة والسلطة التي أعطت للقيروان بعدها الديني تمنع فيها بيع الخمر بشكل مطلق. لكن كلّ ممنوع مرغوب، و” بيع الخمر خلسة” ، في الأحياء الفقيرة المنسية تحديدا ، تجارة شديدة الرواج ولها حرفائها الذين لا يخفرون لها عهدا، وقد تغلّبت لذة المشروب المسكر على محاذير اكتشاف السلطات هذه الأوكار. والتاكيلا منتشرة كذلك في ليبيا، فجميع الأصناف الاجتماعية، وبالأخص الشبان والفئات الفقيرة، تقبل عليها في بحثها عن المتعة والنسيان بأرخص السبل.

لا جسر ولا مياه تجري تحته

لم تعد ثمة مياه تجري تحت الجسر، ولم يعد الشيخ محمد بن سلامة يذهب كل صباح ليفتح دكانه منذ مطالع هذه الالفية،  بشكل نهائي. ولا مازال عنده سبب ليفتحه. اذ أقعده الكبر.. وسنّه تقترب من الـ 85 .. وقد يكون أكثر إيلاما له من الكبر وأعباءه وعيه أنّ ما كافح في سبيله لأكثر من نصف قرن قد راح هباء منثورا… فلم يتولّد ذلك الحاضر الذي سهر عليه يوما إثر يوم عن أيّ مستقبل… البذرة لم تثمر وماتت في تربتها لأنّ المناخ تغيّر جذريًا .. توقف آخر جيل تعلم الحرفة عند نهاية الثمانينيات ولم يأت بعدهم جيل يأخذ منهم المشعل. فانهار الجسر  الرابط كلّه.

قد يكون تشتت النساجين وافتتاحهم لمحلات في مختلف أنحاء المدينة، بعيدا عن الجرابة، بحثا عن مصير أرحم، قد أضرّ بمجتمع النساجين داخل المنطق الحرفية  وأساء إلى سمعتها وأفقدها هيبة كونها المركز, لكن كل هذا صار بلا معنى فيما بعد، اذ تساوى الجميع في الإغلاق والتفقير واندثار ما بين أيديهم. لم يعد أحد ينسج لأنّ لا أحد يطلب نسيجا. مصير المنطقة الحرفية- الجرابة كان يبدو مرسوما من البداية، عبر الإهمال الدائم واعتبارها وأهلها بؤرة عفنة داخل المدينة. كان مرسوما لها أن تندثر، لتنتعش صناعات المعامل والشركات الآلية البديلة  المسمّاة “موكات” القائمة على تقليد خطوط النسيج اليدوي وتنفيذه على الآلة، ، ولا أحد تقريبا يعرف شيئا عن مصير مئات العائلات التي فقدت موارد زرقها.

في خضم عواصف المجهول الذي تتجه نحوه تونس، تبدو حكاية الجرابة، بناسها المساكين الفقراء الذين اندثرت حرفهم، تفصيلا شديد الصغر في لوحة البؤس العامة لا يكاد يكترث له أحد؛  فالقليلون حاليا يعرفونهم، والعائلات التي تغطّت لسنوات طويلة بأغطية حاكها نساجو الجرابة في الأيام الخوالي أدرك أغلب أفرادها الهرم، شأنهم شأن المنسوجات نفسها… فبليت الأغطية وبليت الذاكرة… لكن بعض الشقوق النادرة، الشبيهة تماما بتلك التي  أتاحتها لي قفزتي غير المخطط لها لنافذة محل الشيخ بن سلامة، تجعلنا نستعيد بوضوح جارح مؤلم، رغم أنوفنا ورغم  الرغبة الجامحة في طمس الماضي بكافة تفصيلاته، وعبر الأغبرة والظلام الذي يلف المحلات وذكرى ساكنيها الذين رحلوا، صورة للهول الذي تصنعه اللامبالاة العامة بالمصائر المحطمة.

هنا عاش بشر، وهنا صنعوا لأنفسهم ولعائلاتهم حياة وتركوا ذكريات. وما من جديد حصل، غمر عالمهم وطمسه وأزال آثاره ، بوسعه إخماد صرخات أرواحهم المعذّبَة في برزخها  المنسيّ. كلّما ذهبت الى الجرابة وتمشيت في أزقتها المقفرة، أشعر بأرواحهم تتجول في المكان، ويصلني صدى ضحكاتهم ووقع أقدامهم  وطَرْقُ أنوالهم. لموت عالمهم ذلك الأثر الشبيه بانجراف عنيف لمجموعة من المراكب الضعيفة نحو ساحل صخري يحدّه جرف شديد العُلوّ، بفعل موجة عاتية وعمياء، شكّلها الجنون الربحي الرأسمالي الذي قضى على كيْف الحِرَف الجميلة المتطلّب للوقت، لصالح كمّ المصانع بمنتوجها السريع الذي يتصارع مع الزمن من أجل طرح أكثر ما يمكن من الكميات في الأسواق العالم ثالثية المستباحة وجني الحد الأقصى الممكن من الربح.

لكن لعيناي أنا المشبعتين بذكرى ذلك الماضي والحنين إليه الذي لا ينقع له غلة…الجرابة تبدو لي آهلة في إقفارها، ومقفرة في أهولها بأشباح من سكنوها.

الصورة الرئيسية للمقال : مريم الناصري/ الترا تونس

بقية الصور المرافقة للمقال، من عدسة كاتب المقال.


اكثر قراءة