دولة “أنا فهمّتكم” تعود للقتل في وضح النّهار

Aymen Photo

صورة للفقيد الشابّ أيمن عثماني (متداولة على موقع فيسبوك)

صيف 2008 في الرديّف, كان عنوان المرحلة القتل و التنكيل, ومن المشاهد التي رواها لي أحد المصابين بالرصاص من الخلف,  قسوة البوليس حين قام ضربه رغم إصابته .

لم يكن وقتها ليخطر ببالي أن مشهدا مماثلا يمكن أن يتكرر و بطريقة أكثر فظاعة بعد ثورة قامت على مثل هذه الممارسات . مشهد “الشهيد أيمن” وهو ملقى على الأرض و أثر الرصاصة واضح على جسده الهزيل كان فظيعا و مستفزا, وما زاد الأمر سوءا هو تلك التقارير البوليسية التي راجت بعد الحادثة .

لم يكتف الجهاز الأمني بقتل الشاب بوقاحة و في ساحة عامة و أمام نظر الجميع, بل سارع إلى تشويهه مطلقا في ذلك كلاب حراسته في وسائل الإعلام, ليصورا الأمر على أنه دفاع عن النفس, و يتبنوا كل البيانات  الرسمية السخيفة عن الجريمة دون عرضها على محك العقل, في الوقت الذي كانت فيه الصورة واضحة و لا تحتاج نقاشا (رصاصة من الخلف). ولأن الحقيقة كانت صارخة و أكبر من أن يتمّ تزيفها, فقد تبرأ جهاز الداخلية من الجريمة و نسبها إلى وزارة المالية بإعتبار أن القاتل تابع لسلك الديوانة المنطوي تحت إشراف وزارة المالية .

في النهاية هذا الجهاز سواء كان ديوانة أو شرطة أو غيرها من الأجهزة القمعية, هو اداة لحماية مصالح العصابات الحاكمة و رجال الأعمال و المتنفذين في البلاد .

فكيف يفسر هذا الجهاز تلك الأرقام المرعبة عن الرشاوي التي يتلقاها, و عن عمليات التهريب في مختلف المداخل الحدودية ؟وكيف يمكن أن يكون بكل هذه الوقاحة حتى يترك اباطرة التهريب الذين يعرفهم الجميع ليدخل حيّا مفقرا و يطلق النار كما يحصل في أفلام رعاة البقر الأمريكية . هذه ليست المرة الأولى التي يقتل فيها شاب على يد جهاز نظامي,و من المهم تتبع هوية الضحايا فجميعهم امّا من الطبقة الوسطى أو المفقرين ,هؤلاء من لا ترى الدولة حرجا في قتلهم بدم بارد .

قبل أيمن كان هناك عمر و كان هناك تقرير طبيب شرعي, و مرّت الجريمة و أفلت القتلة من العقاب, و قبل عمر كان هناك أنور السكرافي, و فرّ القتلة أيضا من العقاب و ساهم الإعلام في إنقاذهم و لعب دوره القذر المنوط به في كل مرة يغتال فيها أحد المفقرين .

من جهة أخرى فمن الطبيعي أن يخلق المفقرون متنفسا إقتصاديا خاصا بهم أمام تخلي الدولة عن دورها الإقتصادي,و أمام سياسة التجويع و مراكمة الناس في الأحياء الشعبية,و تقلص فرّص العمل,و غياب التنمية, سيحاول هؤلاء دوما خلق فضاء إقتصادي يقيهم الموت جوعا .

هذه الدولة التي تحتكر الرخص لصالح أناس بعينهم, وتوزعها حسب حجم الرشاوي و الخدمات التي يقدمها هؤلاء, ثم تسعى لظهور بمظهر المحارب للفساد, فتضحي بأبناء الطبقة المفقرة,و تطلق النار عليهم في وضح النهار دون حياء . هذه الدولة التي أثبتت كونها دولة “ساقطة أخلاقيا” لايمكن أن تتحدث عن القانون اليوم, و لايمكن أن تستنكر أعمال العنف ضدها التي باتت تتوسع أكثر فأكثر,بداية من الأحياء الشعبية نهاية بالملاعب .

أصبح الغضب ملازما لشباب الأحياء الشعبية بعد توالي الخيبات وتكريس واقع التفقير الذي يعيشه أكثر فأكثر و إنعدام الحلول,وكعادتها ,تكابر هذه الدولة في الإقرار بفشلها و فشل خياراتها التي تخدم أقلية متنفذة ,و حين يفوت الأوان ستظهر كعادتها مكسورة ذليلة و هي تردد تلك العبارة “أنا فهمتكم ,إي نعم أنا فهمتكم ”      

اكثر قراءة

  • الغربة والاغتراب بعد السابع من أكتوبر

    تلقيت في الخامس من ديسمبر 2023 مكالمة هاتفية من صديقي عماد، شاب قاطن بألمانيا منذ ما يزيد عن السبع سنوات…

    بلا حياد

    الغربة والاغتراب بعد السابع من أكتوبر12
  • «الفيراج» تنبيه دائم بقدوم العاصفة

    يوم السبت، ارتديت قميص الفريق وسروالا قصيرا، وحذاءً رياضيا. حزمت بعض الأمتعة في محفظتي التي حملتها مسرعا على ظهري، في…

    بلا حياد

    «الفيراج» تنبيه دائم بقدوم العاصفة
  • رأي | عن الإجهاض والغضب النسوي: سرد خاص، ألم مشترك

    من داخل قاعة الانتظار، في عيادة طبيبة التوليد وأمراض النّساء، أحاول أن أكتب مقال رأي أو مقالا تحليليّا عمّا يجري…

    رأي

    عن الإجهاض والغضب النسوي: سرد خاص، ألم مشترك
  • الإصلاح الزراعي: من أجل إنتاج عمومي للغذاء

    يعاني نمط الإنتاج الفلاحي التونسي السائد من تخلف واضح. أصبح هذا النشاط الاقتصادي طاردا لليد العاملة، إذ أنه يُشغّل بالكاد…

    اقتصاد سياسي

    مزارع تونسي يحمل قمحاً في موسم الحصاد (فرانس برس)