حديث فلاحي: في تفسير السياسات الفلاحية التونسية من أجل تغييرها

13/03/2022
Federico Respini Syffw0lnr7s Unsplash

ساهمت هذه السياسات إذن في تسهيل عمليات انتزاع الأراضي من الفلاحين/ات الصغار ممن تقطعت بهم السبل بحكم قوانين السوق التي لفظتهم في وضعية تبعية عنيفة للموزعين والدائنين. فانطلقت حملات الهجرة والنزوح وانفجار الأوضاع الاجتماعية في المدن المكتظة باحتياطي اليد العاملة التي بدّلت فلاحة الريف بحِرَف المدن فاشتاقت لكليهما الاثنين.

تحتوي هذه الصورة على سمة alt فارغة؛ اسم الملف هو هيثم-القاسمي.jpg
بقلم هيثم القاسمي

لملاحظ أن ينتبه حين اطلاعه على تاريخ السياسات الفلاحية التونسية، منذ الاستعمار الفرنسي وعند بناء الدولة الوطنية وما بعد ثورة 2010-2011، أن هذه السياسات لم تكن يوما نابعة من الواقع المحلي للفلاحة التونسية داخل علاقات الإنتاج والاستهلاك. ليس المقصود تلك الأفكار والأطروحات التي اطلع عليها الحكّام أو المنتجون/ات من ثقافات وحضارات أخرى فاستلهموا منها وحاولوا تطبيقها بإرادتهم، بل يرمي القصد هنا للفرض “الخارجي” القسري لسياسات فلاحية تحفظ مصالح معينة خارجة عن مصالح المنتجين/ات والمستهلكين/ات على حد السواء.

تجدر الإشارة هنا بأن توصيف “الخارجي” لفعل فرض السياسات الفلاحية لا يعني فقط تدخل القوى الأجنبية في شؤون البلاد التونسية دولة وشعبا بل أيضا ذلك التدخل الذي تفرضه السلطة المركزية على الفلاحين/ات كمنتجين/ات للغذاء أساسا بل وأيضا على المستهلكين/ات. ليست هذه الوضعية باستثناء تونسي بل هي الحال في جل دول الجنوب العالمي التي ترزح تحت نظام عالمي مبني على التسليع الشامل لكل الموارد الطبيعية وأمْوَلة (Financialization) كل المعاملات الاقتصادية بين البشر.

ما انفكت الشعوب تناضل ضد هذا النظام وسياساته التي تعمق الهوّة بين المنتجين/ات ومنتجاتهم وتوسّع المسافات بين المنتجين/ات والمستهلكين/ات. ولم يعد بمقدور هذا النظام، في الجهة الأخرى، تغطية فظاعاته وتجميلها سواء كانت مجاعات أو جوائح أو كوارث طبيعية.

يتناول هذا المقال تاريخ تطور عملية إنتاج الغذاء مبينا الخلل الهيكلي الذي يركّزه تناقض المصالح بين الطبقة الحاكمة – محليا وعالميا – التي تحتكر التفكير في السياسات الفلاحية والغذائية وتفرض تطبيقها وطبقة منتجي/ات الغذاء التي سُلِب منها حقها الطبيعي في تقرير مصيرها الاقتصادي والاجتماعي والثقافي.

في مرحلة لاحقة، يحاول المقال تقديم تصورات مقاومة للنظام الفلاحي والغذائي السائد، تهدم أُسسه وتبني عمادا لنظام يملك فيه المنتجون/ات والمستهلكون/ات سيادتهم على الغذاء.

تمهيد تاريخي

عند انتقال المجتمعات من أنماط الإنتاج ما قبل الرأسمالية إلى نمط الإنتاج الرأسمالي، حصلت داخل البعض منها (أي الأوروبية الغربية) ثورات تفجّرت جرّاء صدام التناقضات بين مُلّاك الأراضي والعاملين/ات فيها، ممّا ولّد نظاما جديدا يعتمد أساسا على مراكمة فائض الإنتاج قصد سلعنته واستثماره عبر تكرار الاعتماد على آليات التوسّع والاستحواذ والاستنزاف. وكان لضعف السلطة المركزية في هذه المجتمعات دور كبير في نجاح هذه الثورات على النظام الإقطاعي الذي كان يحكم علاقات الإنتاج بين نبلاء يملكون الأراضي وأقنان يفلحونها.

في المقابل، لم تتعمق هذه التناقضات في مجتمعات أخرى (الحضارات الصينية والهندية والعربية-الإسلامية مثلا) وذلك يعود لقوة السلطة السياسية المركزية وتغلغل الإيديولوجيات الميتافيزيقية حينها، حسب ما يبيّنه بإسهاب المفكر سمير أمين (1931- 2018) في أغلب كتاباته، بل وفي رحلته الفكرية كلّها التي تبنى فيها نظرية المنظومات العالمية ونظرية التبعية من خلال تحليل علمي عميق لأسباب “التخلف” والتطور اللامتكافئ وقانون القيمة على الصعيد العالمي.

عند ذلك الانتقال المخضّب بالثورات والحروب والاستعمار، تغير نمط الإنتاج الفلاحي والغذائي بطريقة جذرية، إذ انتقلت عملية إنتاج الغذاء من وضعية الكفاف – أي الاستهلاك الشخصي والعائلي والمحلي (في أقصى التقديرات) – إلى وضعية تسليع المنتوجات الفلاحية والغذائية داخل قوانين سوق ميتافيزيقية خارجة عن سيطرة المنتجين/ات والمستهلكين/ات.

يوضح المفكر الألماني كارل كاوتسكي (1854 – 1938) هذه الفكرة بأكثر وضوح في كتاب “المسألة الزراعية” (1899) 1 حين يصف عملية انتقال علاقة الفلاحين/ات بالسوق. كان الفلاح/ة، داخل نظام الإنتاج الإقطاعي، ينتج الغذاء من أجل الاستهلاك العائلي وتحقيق الاكتفاء الذاتي للمجموعة البشرية التي تحيط به، ولا يلجأ للسوق سوى من أجل بيع فائض إنتاجه من الغذاء الخام والصناعات الغذائية والحرفية البسيطة وشراء منتجات رفاهية وترف. لكن، وبعد انتقال صيغة الإقطاع من خلاص ريْع الأرض (النسبة التي يقدمها الفلاح/ة إلى مالكي الأرض ككراء، مثل نظام الخماسة في تونس) عبر المنتوجات العينية (أي من المواد التي ينتجها) إلى الخلاص عبر الصيغة النقدية، أصبح الفلاحون/ات في حاجة كبيرة إلى سيولة نقدية حتى يوفوا بواجبات الإقطاع. من جهة أخرى، وإثر تطور النشاط الفلاحي عبر المكننة والكيمياء جراء التدخل “الاستثماري” من قبل برجوازيات المدن، أصبحت الحاجة للمال أكبر من أجل المعاملات التجارية التي تقتضي شراء المدخلات الفلاحية.

أنتج هذا النظام الجديد وضعية من الهشاشة الهيكلية لدى منتجي/ات الغذاء تتمثل في المظاهر التالية:

– تحويل غاية إنتاج الغذاء من وظيفته الاستعمالية (التغذية) إلى وظيفته التبادلية (النقود) من أجل خلاص ريع الأرض.

– الزيادة في الإنتاج من أجل زيادة الأرباح لا من أجل تلبية الحاجة للغذاء.

– الاضطرار للتعامل مع وسطاء لترويج المنتوج، إذ لم يعد بمقدور الفلاحين/ات (وقتا وجهدا) الذهاب إلى السوق.

– الاعتماد على تقنيات ضخمة وباهظة الثمن للإنتاج المكثف من آلات ميكانيكية ومواد كيميائية.

– اللجوء إلى التداين النقدي الرِبَوي من أجل توفير التكنولوجيا التي يتطلبها الإنتاج المكثف.

– التبعية للسوق المتعالية على الإنتاج والتي ليس للفلاحين/ات عليها سيادة أو سلطان، حيث يتم امتصاص جهدهم من قبل الدائنين والموزعين.

هكذا أصبح الإنتاج الفلاحي والغذائي محكوما بقوانين المضاربة التي لا تلبي إلا مصالح كلّ من ليس له دخل في عملية الإنتاج الأولى. هكذا أصبح الموزعون والبنكيون والمضاربون والحاكمون أصحابا لسلطة الرأي والقرار في عملية اقتصادية واجتماعية وثقافية لا يمارسونها كي يفقهوا خصوصياتها. فأضحى المنتجون/ات الفعليون/ات مجرد آلات داخل عملية الإنتاج.

السياسات الفلاحية والغذائية في تونس

رافقت هذا التحول في نمط الإنتاج في مجتمعات أوروبا الغربية حملات تجارية خارجها بحثا عن أسواق لترويج فائض الإنتاج الفلاحي والصناعي وعن موارد طبيعية غير موجودة في التراب الأوروبي. لم تمنع الدوافع المجيدة والعظيمة المعلنة لهذه الحملات، “المستكشفين” من همجية انتزاع الأراضي والموارد والنفوس. فانقلب الاستكشاف استعمارا وانطلقت عمليات “المراكمة عبر الانتزاع”، حسب تعبير الجغرافي البريطاني “دايفيد هارفي”2، وذلك عبر افتكاك الموارد من أصحابها واستعباد البشر من خلال امتلاك نفوسهم وامتصاص جهد عملهم.

لم تكن البلاد التونسية في معزل من هذه الحملات العالمية. ففي سنة 1881، حل ركب الإمبراطورية الفرنسية بشواطئ الإيالة التونسية معلنا “حمايتها”. لم يطل الأمد بالاستعمار الفرنسي للبلاد التونسية حتى تمّ إنشاء “السجل العقاري” سنة 1885 بغاية فرض الملكية الخاصة للأراضي الفلاحية تمهيدا لبيعها للمعمرين. مثّل هذا القانون اللبنة الأولى لتفكيك علاقات الملكية الاجتماعية والتشاركية لدى المجتمعات التونسية قبل الاستعمار. وبموجب هذا التحول الجذري، مهّد انتزاع ملكية الأرض من أيدي الفلاحين الطريق لتغيير نمط الإنتاج المحلي التقليدي (الزراعة الجافة) إلى نمط إنتاج تكثيفي واستنزافي يلبّي مطالب المالكين دون اعتبار لمصالح المنتجين/ات الفعليين/ات3.

كان التغيير الجذري الذي طرأ في مجتمعات أوروبا الغربية مربحا للمستثمرين والمضاربين على المستوى المحلي. وبما أنّ النظام الرأسمالي ينبني أساسا على المراكمة فقد أصبح من البديهي التوسّع وفرض هذا التغيير على المجتمعات الأخرى. تطور إذن التناقض الضيق بين ملّاك الأراضي والعمال الزراعيّين الأوروبيين في مجالهم الجغرافي المحدود إلى تناقض واسع بين دول المركز الرأسمالي والدول الأطراف على الصعيد العالمي.

حسب أبحاث راي بوش وجوليانو مارتينيلو 4 (2017)، تنقسم أنظمة الغذاء العالمية تحت النظام الرأسمالي المعولم إلى 3 مراحل أساسية:

– من 1870 إلى 1914: فرضت على دول الجنوب العالمي (إفريقيا وآسيا) خلال هذه الحقبة طريقة الإنتاج الفلاحي المتخصص (حبوب، أرز، قطن، عنب…) وذلك لتلبية حاجيات سكان دول المركز الرأسمالي.

– من 1940 إلى 1973: إثر نهاية الحروب العالمية واستقلال المستعمرات القديمة، انتهجت دول الجنوب نظام الإنتاج الفلاحي الصناعي المكثف وفائض العمل من أجل “اللحاق” بالدول المتقدمة. تميزت هذه المرحلة بالتحولات الزراعية المتعثرة (تجربة التعاضد في تونس مثالا). واضطرت بذلك هذه الدول إلى التداين وتصدير الغذاء (نلاحظ هنا تشابه المسارات بين الفلاح الأوروبي ودول الأطراف).

– من 1973 حتى أمس قريب: ما أن انقضت “صدمة النفط الأولى” سنة 1973 حتى أذنت بانبلاج يوم جديد (بنفس الهراء) من تقويم النظام الرأسمالي العالمي. استغل هذا النظام السرطاني هذه الأزمة عبر إعلان انقضاء فترة الفسحة التي تميزت بها “السنوات الثلاثون المجيدة” وفكّ قيود التوحش الرأسمالي، التي كانت ملجمة بحزمة من القوانين التعديلية التي اعتمدتها الدول المتقدمة لحماية مجتمعاتها من أحكام السوق الحرة. جاء عصر “النيوليبرالية” وجلب معه “برامج الإصلاح الهيكلي” التي فرضت سياسات التقشف ورفع الدعم عن الفلاحين/ات وخصخصة المنشآت العمومية.

من الضروري الوقوف هنا على مثال توضيحي لهذه الشروط كي نفهم أثرها على السياسات الفلاحية في تونس.

تم إنشاء “ديوان الحبوب والبقول الغذائية وغيرها من المنتوجات الفلاحية” سنة 1962 كي يعمل على تعديل هذا القطاع الاستراتيجي لأمن البلاد التونسية وشعبها. وانطلاقا من سنة 1970، تمّ إعادة تنظيم أنشطة الديوان إثر تخليه عن كل نشاط مرتبط بالبقول الغذائية وغيرها من المنتجات فأصبح يحمل إسم “ديوان الحبوب” فقط. ثم مع تواصل تبني “برامج الإصلاح الهيكلي”، أخذت مهام هذا الديوان في التراجع والتقلص حين تم تعميم تشجيعات مجلة الاستثمار الفلاحي والصيد البحري على أنشطة تجميع وتخزين الحبوب سنة 1990. ثم تخلّى الديوان عن توريد مادة الذرة والفصّة وفيتورة الصوجا سنة 1992، وتمّ تحرير المتاجرة في مادّة الشعير على النّطاق المحلّي وتحرير أسعار إنتاجه سنة 1993. ومنذ سنة 2004، انطلق التخلي التدريجي عن تزويد منتجي الحبوب بالأسمدة والأكياس لفائدة موزّعين خواص إلى أن تم فسح المجال منذ موسم 2005 لمجمّعين خواص للتدخّل مباشرة وبصفة منوّبين لديوان الحبوب في عمليات تجميع الحبوب مع محافظة الديوان على دوره في التخزين وبيع الكميات المجمّعة5.

ساهمت هذه السياسات إذن في تسهيل عمليات انتزاع الأراضي من الفلاحين/ات الصغار ممن تقطعت بهم السبل بحكم قوانين السوق التي لفظتهم في وضعية تبعية عنيفة للموزعين والدائنين. فانطلقت حملات الهجرة والنزوح وانفجار الأوضاع الاجتماعية في المدن المكتظة باحتياطي اليد العاملة التي بدّلت فلاحة الريف بحِرَف المدن فاشتاقت لكليهما الاثنين.

السيادة الغذائية

يعتبر سمير أمين 6 (2017) أنّ الزراعة الفَلَّاحية هي الطريق المُجدية الوحيدة لفكّ الارتباط مع منطق رأس المال الذي جعل من النشاط الفلاحي على ما هو عليه كما تم بيانه أعلاه. ليست الغاية رومنسية “نوستالجية”، بل لأنّ نصف سكان العالم (قرابة 3 مليارات شخص) يمتهن الفلاحة المعاشية العائلية كما أن نسبة متوسط الإنتاجية بين بلدان الشمال والجنوب قد ارتفعت من 10/1 في السنوات الأربعين من القرن الماضي إلى 1/100 في يومنا هذا. تدلّ هذه النسبة إذن على استحالة الحلّ الرأسمالي للمسألة الزراعية الذي لم ولن يُجدي نفعا، بل سيزيد من التبعية الغذائية لمراكز رأس المال العالمي من بنوك وشركات إنتاج المواد الكيميائية والآلات الميكانيكية ومؤسسات احتكار البذور والتكتلات السوقية.

لم يُسقِط المفكر الاقتصادي هذه الاستنتاجات من خلال أبحاثه في نظريات التخلف والتبعية والتنمية فقط، بل استلهمها من نضالات شعبية طويلة المدى خاضها الفلاحون/ات عبر التاريخ والجغرافيا.

ولعل أوج هذه الصراعات قد تجلى بوضوح للعالم من خلال حركة “النهج الفَلَّاحي – La Via Campesina” التي ابتدعت مفهوم “السيادة الغذائية” والذي يعني، حسب “وثيقة نيليني” :

“حق الشعوب والمجتمعات المحلية والبلدان في تحديد سياساتها الخاصة بالزراعة والعمالة الزراعية وصيد الأسماك والغذاء والأراضي بطريقة ملائمة بيئيا واجتماعيا واقتصاديا وثقافيا لظروفها. ويشمل الحق في الغذاء وإنتاج الغذاء أن لجميع الناس الحق في النفاذ لغذاء آمن ومغذ ملائم ثقافيا والنفاذ لموارد إنتاج الغذاء والقدرة على إعالة أنفسهم ومجتمعاتهم. تولي السيادة الغذائية الأولوية لحقوق الناس والمجتمعات المحلية في إنتاج الغذاء واستهلاكه، سابقا للاعتبارات التجارية والأسواق العالمية”7.

كان تأسيس هذه المنظمة الأممية في سنة 1993 وتشمل صغار ومتوسطي/ات الفلّاحة وعملة الفلاحة والنساء الريفيات وأفراد المجتمعات المحلية وليد حالة من الغضب العالمي من توحش الرأسمالية عبر السياسات النيوليبرالية التي أطلقت عنانها في ثمانينات القرن العشرين عبر التدخل السافر في الأرياف من استحواذ على الأراضي وتهجير للفلاحين/ات وتضييق على حرية النشاط الفلاحي. تعززت هذه الهجمة بمساندة مؤسسات بين-حكومية مثل منظمة التجارة العالمية التي صادقت على اتفاقية الزراعة واتفاقية حول الجوانب التجارية لحقوق الملكية الفكرية (TRIPS). تعرضت هذه الاتفاقيات لردود أفعال نقدية عنيفة من قبل صغار الفلّاحة خاصة في الجنوب العالمي حيث اعتبروا أن هذه الاتفاقيات تعطي حلولا تقنية لمشاكل سياسية تتعلق بالحق الإنساني في الوصول للغذاء والحصول عليه. وفرت إذن منظمة “النهج الفلّاحي” مجالا لإيصال أصواتهم/هن لدى منظمة الغذاء والزراعة ومجلس حقوق الإنسان التابعين للأمم المتحدة.

لكن لا يغير التاريخ ما بنظام حتى تحكم الطبقات المهيمن عليها نفسها بنفسها، إذ يبقى مجهود المنظمات – المحمود والمطلوب طبعا – قاصرا أمام تغيير نظام عالمي ترسخ بطول الأمد وقوة السلاح والعتاد واحتكار وسائل الإنتاج وقطع الطريق أمام كل محاولات الخروج منه.

وعليه فإنه من الضرورة أن تتم مراجعة العديد من السياسات الفلاحية على ضوء سيادة المنتجين/ات المباشرين/ات على إنتاجهم/هن بطريقة ديمقراطية تشرّك كل من له/ها علاقة مباشرة بالقيمة الاستعمالية للغذاء (أي التغذية) لا قيمته التبادلية (الأموال). إذ أنه من غير المنطقي أن يتم تحديد السياسات وإملاؤها من قبل أطراف لا يمارسون الفلاحة كمورد رزق وحيد أو أساسي إن لم نقل بأنهم أصحاب مصلحة في امتصاص قوة عمل الفلاحين/ات واستنزاف الموارد الطبيعية من أجل أرقام تُكتب في شاشة وتخوّل لهم شراء سيارة ثانية أو منزل على شاطئ البحر.

كما وجب أن تعود سلطة الرأي والقرار للفلاحين/ات في تحديد أنواع وكميات المنتجات الفلاحية والغذائية التي لهم/هن الرغبة في إنتاجها وذلك حسب الحاجات التي يعبّر عنها المستهلكون/ات المحليون/ات. فكيف يتم إنتاج تلك الكميات الضخمة من زيت الزيتون باعتبارها “ميزة مقارنة” من أجل حفنة من العملة الصعبة بينما يستهلك السكان المحليون زيتا مستوردا ذا قيمة غذائية متدنية.

كما لا يستقيم هذا التمشي إن لم يكن داخل تخطيط وطني تحمي به مؤسسات الدولة منتجي/ات الغذاء من التدخل الاستثماري الذي لا يحترم الخصوصيات الاجتماعية والاقتصادية والثقافية والبيئية للأرض ومن يسكنها ويفلحها. فليست الفلاحة بمعزل عن الأنشطة الاقتصادية الأخرى فهي عنصر من عناصر بناء السياسات الاقتصادية العامة، مثلما أنها ليست أقل شأنا من غيرها من القطاعات كي تستحوذ عليها الصناعة أو التجارة أو السياحة (المنعوتة بالإيكولوجية.. يا للعبث!).

أما خارجيا فتكمُن أهمّ خطوة في فكّ الارتباط بالأسواق العالمية التقليدية للغذاء، التي تعتمد على التبعية عبر سياسات التبادل اللامتكافئ للسلع وتعميق علاقات التداين وفرض الشراكة الاقتصادية دون التشاور النِّدِّيّ. فليس من المعقول أن يكون النشاط الفلاحي مرتهنا لتقلبات السوق المحلية والعالمية، إذ أنّ تغريدة على تويتر ينشرها رئيس دولة قد تٌسبّب أزمة ديبلوماسية يرتفع إثرها ثمن برميل النفط فينام أطفال فلاحٍ في دشرة في تونس فارغي البطون.

ختاما

لا يمكن تمثّل المسألة الفلاحية دون فلسفة وممارسة ديمقراطية راديكالية تضع المنتجين/ات والمستهلين/ات في أعلى هرم سلطة التفكير والرأي والقرار. إن الهوّة العميقة بين من ينتج الغذاء ومن يستهلكه قد ازدحمت بالطفيليات البنكية والمالية التي تهوى لعب القمار على بطون مليارات من البشر، وكلّما تم تضييق هذه الفجوة كلما انتفت مظاهر استغلال المنتجين/ات واغتراب المستهلكين/ات.

إنه لعالم غريب ذلك الذي لا يأكل فيه الفلاحون/ات ممّا ينتجون/ن ولا يعلم فيه المستهلكون/ات من أيّ أرض يأكلون/ن.


المراجع

1. Karl Kautsky, La question agraire : Étude sur les tendances de l’agriculture moderne, Nabu Press ,1899

2. David Harvey, The New Imperialism, Oxford University Press, 2003

3. أيمن عميد، الحق في الأرض: من الانتزاع إلى الإصلاح الزراعي، حلول، 2021.

4. Ray Bush and Giuliano Martiniello, Food riots and protest: Agrarian modernizations and structural crises, World Development, 2017, vol. 91, issue C, 193-207

5. ديوان الحبوب، النشر في فيفري 2016، الإطلاع في نوفمبر 2021، http://www.oc.com.tn/ar/presentation-ar/fondation

6. Samir Amin, La souveraineté au service des peuples, CETIM, 2017

7. Déclaration de Nyéléni, 2007, https://nyeleni.org/spip.php?article290

مقالات ذات صلة

  • سمير أمين – المسألة الزراعية قرنا بعد ثورة 1917: فلاحة رأسمالية وفِلاحات في الرأسمالية. الجزء الأول.

    يرى الباحث هنا أنه من المُحزن أن الآراء المُتصلّبة التي تقف ضد انخراط دول إفريقيا في جهود التصنيع مازالت رائجة…

    اقتصاد سياسي

    Samir Amin Cover
  • قراءة نقدية للتجربة التعاضدية في تونس

    ففي سنة 1961، تم تقليد "أحمد بن صالح" الذي يعرف بكونه "مهندس التعاضد" وزارات التخطيط والمالية والاقتصاد وانطلق المسار باعتماد…

    اقتصاد سياسي

    E 4 Ebpieq Gfdy4dydpc Transformed
  • المسألة الزراعية في العالم وفي تونس

    فماهي عناصر مفهوم "المسألة الزراعية"؟ وكيف تطوّر بتغيّر الواقع؟ وماهي تمظهراته في تاريخ الواقع الفلاحي التونسي؟

    اقتصاد سياسي

    Create Art Online 5247 Medium 1683897921 Kindlephoto 2311355484 1
  • فلّاحة وفِلاحة : فهم واقع القطاع الفلاحي من أجل تغييره

    "طيف ينتاب العالم - طيف مسألة زراعية جديدة. [...]لا يوجد أي تنظيم اجتماعي أو سياسي جدّيّ لا يعتبر الطريق الفلّاحية[^1]…

    اقتصاد سياسي

    ملف خيثم 1 1