حتى لا يسقُط البلد بعد الجدار…

19/04/2025
Ghassen mazounna final

اهتزّت تونس في الأيام الأخيرة لوفاة التلاميذ الثلاثة إثر سقوط جدار معهدهم المتصدّع بالمزوّنة. رحم الله عبد القادر الذهبي وحمودة مسعدي ويوسف الغانمي ووهب ذويهم الصبر والسلوان، عسى أن تتسع رحمته وصبره لتشمل كلّ من يعيش على أرض تونس.

 من الطبيعي جدًا أن ينتفض شباب هذه البلدة الصغيرة الواقعة على تخوم ولايتيْ سيدي بوزيد وصفاقس. من كان يتوقّع ألّا يغضب الناس في هذه القرية المُسقَطَة من حسابات التكنوقراط أمام هول الجريمة التي لحقت بأطفالٍ ذنبهم الوحيد أنّ أُسرهم مازالت تثق بالتعليم العمومي و”المصعد الاجتماعي”.

كيف تفاعلت معهم السلطة التي يرفع رئيسها اليوم شعارات “الدولة الاجتماعية” و”البناء والتشييد” و”استئناف المسار الثوري” (الذي انطلق للمفارقة من هذه الربوع)؟ بإرسال تعزيزات أمنية لقمعهم، وبإيقاف مدير المعهد الثانوي وتقديمه كبش فداء (وقع اخلاء سبيله أوّل أمس مع تركه على ذمة التحقيق). أمّا رئيس الدولة، الذي يحظى بشعبية محترمة في ولاية سيدي بوزيد (نتيجة سخط أهلها على حكومات ما قبل 25 جويلية)، فقد اجتمع في اليوم الثاني ببعض وزرائه وألقى كلمة فضفاضة، انتقد فيها كعادته الإدارة والإجراءات البيروقراطية والمشاريع المعطّلة إلى درجة توحي بأنّه مازال معارضًا للسلطة لا حاكمها منذ أكثر من خمس سنوات. ثمّ بعد مرور حوالي أربعة أيّام عن الفاجعة، زار الرئيس المزّونة فجر أمس ليلقي على مستقبليه نفس العبارات المعتادة عن “الخونة والعملاء” وعن ضرورة “التلاحم بين الشعب والأمن”، وليطمئن من ذكّره بمعاناة أهل المزونة، بأنّه، كما جيرانه، يعاني أيضا…

والمشكلة، لم تكن يومًا في اتهامه لـ”خونة وعملاء” بالمسؤولية عن بعض الأحداث. فلا شكّ في أنّ من دمّر القطاع العمومي (بما في ذلك “مصنع البلاستيك” الذي تحدّث عنه مع أهالي المزونة) طيلة العقود الماضية بالفساد وسياسات التقشف تمهيدًا لتفكيكه التدريجي، أو من فرّط في ثروات بلادنا المتواضعة لرأس المال الأجنبي، أو من لا يرى مانعًا في الاستقواء بالعواصم الاستعماريّة لتنصره في وجه السلطة، هو “خائن وعميل”. المشكلة هي  أنّ سعيّد لا ينصت لمن يتحدثون معه، كما قالت سيّدة من مواطني المزّونة الذين اجتمع بهم. بل يكتفي بتكرار نفس الكلام والقاء التهم دون أدلّة ودون تفاصيل أو أسماء، وكأنّه يتحدّث عن أشباح أو أطراف هلامية لا يمكن ادراكها بحواسنا البشرية، ما أدّى مع مرور الوقت الى ضجر العديدين بهذا الخطاب وعدم أخذه على محمل الجدّ. أمّا المشكلة الأكبر فتتمثّل في أنّ سعيّد لا يفعل شيئا ملموسًا لتغيير ما ينتقده من سياسات نيوليبرالية تابعة انتهجها “الخونة والعملاء”، بل يواصل فيها رغم اعتقاده أو زعمه أنه يفعل عكس ذلك. ويكفي مثاليْ قانون تجريم التطبيع وملفّ الطاقات المتجدّدة دليلا على ذلك (دون أن ننفي محاولته اصلاح بعض المسائل مثلما فعل بتجريمه المناولة)…

والحقيقة أنّه لم يعد في هذا المشهد ما يدعو للدهشة أو الاستغراب. من الواضح أنّ الرئيس الذي بنى سرديته على فكرة “البناء القاعدي” وانصاف أبناء الدواخل، والذي نجح في خوض حملته “التفسيرية” بفضل سياسة تواصل ميداني ذكيّة (وقد بدأت سنوات طويلة قبل انتخابات 2019)، جاب خلالها كلّ أنحاء البلاد – تحديدا جهاتها الداخلية المُهمّشة – وتواصل فيها بتواضع واحترام مع مختلف الفئات الاجتماعية،من عمّال الحظائر إلى اعتصامات المعطّلين عن العمل إلى الجمعيات الشبابية والخ (وقد كان محاطًا آنذاك بحزام من مناضلين يساريين اجتماعيين اختفوا اليوم من المشهد المحيط به)، من الواضح أنّه بات اليوم أسير ما حذّره منه المثقف الراحل كمال الزغباني. إذ توجّه إليه بمنشور على صفحته في فيسبوك (في نوفمبر 2019)، هذا مقطع منها :”إن وجدت نفسك أسيرا في القصر وحوصرت من كلّ الأجهزة بسرّيّها وعلنيّها، والواضح أنّ ذاك ما سيكون، فاطلب اللجوء في زغبانيا (حديقة أنشأها المثقف الراحل، زرعها وجمع فيها أصدقاءه من صعاليك الفكر والسياسة)”.

بات واضحًا اليوم أنّ هذا المنشور الذي بدا ظاهريًا كمشاكسة مرحة من صديق لصديقه، كان في الحقيقة بمثابة نبؤة مبكّرة، أو استشرافًا ألمعيًا من مثقف نقدي لمس قبل الكثيرين حدود قيس سعيّد ومشروعه. إذ تراكمت المؤشرات بما يكفي طيلة السنوات الماضية ليستنتج كلّ من يملك شيئا من العقل والنزاهة أنّ حاكم قرطاج شبه منفصل عن واقع البلاد وناسها، وأنّه معزول في قصره (رغم زياراته الميدانية الكثيرة) ومحاصر بتقارير أمنية تصوّر له كلّ ما يجري في البلاد كمؤامرات تحاك في الغرف المظلمة. كما اتّضح لكلّ ملاحظ نزيه أنّ سعيّد لا يملك تصوّرًا أو مشروعًا بديلا واضحًا يمكنه من خلاله تغيير أوضاع البلاد.

وما يزيد الطين بلّة أنّ الرجل لا يستمع حتى لناصحيه من “الوطنيين” الذين ساندوه في 25 جويلية. يكفي أن نرى من يتصدّرون المشهد الإعلامي والبرلماني للدفاع عنه اليوم، حتى نفهم أنّ المتزلّفين والانتهازيين ومحدودي الذكاء كانوا أقدر على فرض أنفسهم من المناضلين الاجتماعيين الوطنيين الذين كانوا سبَبًا في وصوله الى قرطاج (يكفي أن نسأل: أين هي المناضلة سنية الشربطي اليوم؟). وكيف يمكن أن نفهم استمرار بعض المهازل القضائية (من نوع سجن المناضل الوطني عصام الشابيّ واتهامه بالتآمر؟! ) أو القطيعة مع حركة الشعب أو غيرها من الأحزاب والتيارات التي ساندت الرئيس منذ البداية، قبل أن تمارس واجبها – قبل أن يكون حقّها – في نقد أدائه؟

نعم، ما قبل 25 جويلية لم يكن “انتقالا ديمقراطيًا” حقيقيًا، بل كان فصولا متتابعة من الانقلاب على ثورة الشعب، وشهد ما شهد من افقار وتبعيّة واغتيالات. لكننا لم نشهد خلاله هذا الاستسهال في رمي المعارضين وأصحاب الرأي وراء القضبان، ولم يكن صاحب هذه السطور يتمعّن مليًا في اختيار مفردات مقاله استجابة لمناشدة والدته وخشية على مصير أطفاله من تبعات قانون عدد 54 سيّء الذكر… شخصيًا، لم أعش هذا الشعور جزئيًا الّا في عهد الديكتاتورية. ولا حاجة إلى أن أتحدّث عمّا لُفّق لي بعد 25 جويلية من قضايا سخيفة وخطيرة، مازالت تتابعني، لم تُوجّه لي حتى في عزّ نظام بن علي ولا في ظلّ حكم النهضة أو السبسي.. وقد كنتُ معارضًا لجميع هؤلاء أكثر من معارضتي لحكم قيس سعيّد.

وأخطر ما في الوضع الحالي هو أنّ الأمور تتجه شيئا فشيئا نحو سيناريو لطالما ناقشته مع رفاق وأصدقاء غيورين على مصير البلاد. أعني أنْ تُواصل السلطة في هروبها إلى الأمام وفي رفض الانصات لمن يملكون أفكارًا ورؤى قادرة على المساهمة في تغيير وجهة البلاد (ولا أتحدث عن مثقفين شيوعيين أو ثوريين بل عن اصلاحيين قادرين على التفكير “خارج الصندوق” النيوليبرالي، كما الأستاذ في الاقتصاد د. فاضل قابوب على سبيل المثال). سيؤدّي ذلك بالضرورة الى استمرار وتزايد الهزات الاجتماعية، ولن تكون المزّونة آخرها بالتأكيد. ومع الوقت، سيفقد الناس ثقتهم في السلطة بعد أن يدركوا أنّها لا تملك حلولا لمشاكلهم البنيويّة، وسيستنتجون بدورهم أنّه لا يمكن تفسير كلّ شيء بنظرية المؤامرة وتصوير فشل الدولة على أنّه نتيجة تآمر معارضين يريدون “تفجيرها من الداخل”… عندها لن يكون للناس من بديل غير الاحتجاج…

وعندما يحتج الناس، ستردّ السلطة – المسكونة برُهاب المؤامرات – بالقمع. ومع سقوط أوّل الضحايا، قد تتحول الاحتجاجات الى انتفاضة… وعندها، سيفكرّ العقل السياسي والأمني للنظام (أو “الدولة العميقة”)- وهو أوسع وأعمق من السلطة – في أفضل السُبل لانقاذ نفسه وحفظ مصالح الطبقات والفئات الاجتماعية التي يمثّلها. ولن يجد قطعًا أفضل من التضحية برأسه، مثلما فعل ذات 14 جانفي. لكن الفارق هذه المرّة – وهو ليس بهيّن – أنّ الجماهير المنتفضة لن تقبل بمن يمنّيها بـ”العودة” إلى “الديمقراطية” و”مناخ الحريات” (لأنّها تعتبر أنّها جرّبتها وفشلت في حلّ مشاكلها)، بل ستَقبل على الأرجح بأيّ ديكتاتور يَعِدُها بمحاسبة من أجرم في حقّها اذا عرف كيف يخترع أكباش فداء جديدة. وهذا أمر متوقّع جدًا في ظلّ عدم وجود قوى سياسية وازنة تثق فيها الطبقات الشعبية (في دواخل البلاد وأحيائها الشعبية)، وفي ظلّ سياق إقليمي ودولي يتجه نحو الفاشية ولن يمانع أبدًا عودة تونس إلى ما قبل 14 جانفي. بالعكس، سيُعدّ ذلك انجازا لمن يحكم واشنطن اليوم، وللصهاينة وحلفائهم في الأنظمة الرجعية العربية الذين لطالما حلموا وسعوا إلى وأد التجربة الديمقراطية التونسية.

للأسف، لا أرى غير هذا السيناريو المتشائم حاليا. ولمن يسأل عن البديل، أقول ما ما قلته وكتبته سابقًا: هو يتمثّل في بناء قوّة سياسية ثورية تسعى لبناء نظام اشتراكي يضمن العدالة الاجتماعية الفعليّة والسيادة الشعبية والوطنية بحقّ. لكن شرط بناء هذا البديل هو كسب ثقة الطبقات الشعبية، ذات المصلحة في تحقّقه (كما جرى في تجارب نجحت بدرجات متفاوتة في أمريكا اللاتينية وغيرها). وكسب ثقة هذه الفئات، التي نجحت الثورة المضادّة في تنفيرها من الأحزاب والسياسة، بات أمرًا صعبًا جدًا اليوم (لكنه غير مستحيل) لأنّه يستوجب انغراسا عميقًا صلبها، وهو ما يتطلبّ الكثير من الجهد والتواضع والمثابرة ونكران الذات، فضلا عن الوقت. وللأسف – مجدّدًا – لم تنجح أيّ مجموعة سياسية “ثوريّة” حتى اليوم في أن تضع حتى اللبنات الأولى لهذا الانغراس.

ومع ذلك، الطريق السليمة واضحة، ولا بديل لنا غيرها. وعلينا أن نجربّ سلوكها مجدّدا ونصبر على تعرّجاتها ومشاقها.. إلى أن نصل إلى مبتغانا: “وطن حُرّ وشعبٌ سعيد”.

مقالات ذات صلة

  • أعوان المركز الدولي للنهوض بالأشخاص ذوي الاعاقة يعتصمون أمام البرلمان

    ينفّذ أعوان وإطارات المركز الدولي للنهوض بالأشخاص ذوي الإعاقة اعتصامًا أمام مجلس نواب الشعب، منذ يوم أمس، للمطالبة بإصدار نظام…

    الأخبار

    Screenshot 2025 05 06 194525
  • الحاكم بأمره ومنهج ” التفكير المزدوج”

    يُمثّل الرئيس قيس سعيد، في كلامه ومواقفه وسياساته، تجسيما من نوعية غريبة وغير مسبوقة تقريبا لمنهج " التفكير المزدوج" double…

    رأي

    Adel hamdi web
  •  ليس نظاما للتّفقير، بل نظاما لليأس من الحياة

    ستون دينارا بحالها، ما نقصن وما زدن . ذلك هو القسط الأول من المساعدة الرمضانية التي تقدمها الدولة لضعاف الحال.…

    بلا حياد

    Adel hamdi
  • عمّ علي: سطر ضائع في كتاب الحياة

    يُعتبر عمّ علي (84 عاما) واحدا من أقدم بائعي الخضر في "مرشي طريق حفوز"، القائم في الضاحية الغربية لمدينة القيروان.…

    بلا حياد

    blank