من الاستقلال ومحاولات اللحاق إلى عشرية ما قبل الإصلاح (1975-1985)
الإصلاحات. هي الكلمة التي ما فتئنا نسمعها منذ عشرات السنين تعيد إنتاج نفسها جيلا بعد جيل ويكثر عنها الحديث خلال كل أزمة تمرّ بها البلاد. وهي كلمة لا تأتي بمفردها، بل تجرّ أخواتها (أو أحيانا تجرّها أخواتها) من “أزمة اقتصادية” و”تفاقم العجز في الميزانية” وعن قرب “استحالة استخلاص الديون” التي “بلغت نسبة كبيرة من الناتج الداخلي الخام” والوضع الاجتماعي الذي تسبب في “نفور المستثمرين الأجانب” و”تدهور الترقيم السيادي لتونس” و”فقدانها لمصداقيتها” ممّا سينجرّ عنه “عدم قدرتنا على تمويل الميزانية” وصولا إلى “كتلة الأجور” التي “بلغت مستوى مرتفعا من الناتج الداخلي الخام”… وإلى آخره من اللطميات التي يكرّرها المارّون بين أروقة الراديوهات والقنوات التلفزية في مشاهد متكرّرة من البكائيات والتهديدات وجلد الذات حتى يكاد المرء أن يقطع الصوت ويستبق بسهولة ما سيقوله هذا الخبير أو ذلك “الكرونيكور” وغيرهم من الببغاوات الإعلامية. حتى أنّنا نتساءل عمّا سيحدث لهم إن مُنعوا يوما من صياغة جملة مفيدة تحتوي إحدى تلك الصيغ. وهكذا صار الجميع تقريبا متفق: علينا القيام بالإصلاحات!
كأنّنا لم نعش برنامجا أوّلا يقال له “برنامج الإصلاح الهيكلي” سنة 1986 و كأنّ الثورة لم تأت كنتيجة لصعوبة الظروف المعيشية التي حتّمها الخضوع لهاته “الإصلاحات” ولحسن تنفيذها بشهادة البنك الدولي في تقريره السنوي حول تونس في 2010 حيث نوّه بـ<<تحقيق تونس نتائج أعلى من معدّل نظيراتها ذات نفس قدرة الانتاج ومعدّل بلدان الشرق الأوسط وشمال إفريقيا في أغلب أبعاد الحوكمة و مؤشرات التنمية (…) والدولة التونسية في الطليعة بفارق عريض في مجالات النجاعة في الحكم وتطبيق القانون ومحاربة الفساد وجودة سلطتها التعديلية>>1
. وكأنّنا لم نخضع في 2014 وفي 2016 إلى سلسلة من “الإصلاحات” تَحَقَّق جُلّها: من تخفيض قيمة الدينار إلى فرض استقلالية البنك المركزي والسيطرة على نسب العجز المطلوبة في الميزانية والترفيع المُشِطّ في نسب الفائدة المديرية ومزيد إحكام غلق باب الانتدابات. إلاّ أنّ صندوق النقد يطالب اليوم أيضا بمزيد من الإصلاحات والمستهدَف هم ثلاثي كتلة الأجور والمؤسسات العمومية وصندوق الدعم. ومثلما تعوّدنا بخطاب التسويق للإصلاحات، تعوّدنا كذلك بخوائه من أيّ عنصر نقديّ تجاهها. فالتبريرات هي نفسها لم تتغيّر: نحن مديُونون بصفة كبيرة. يجب أن نبحث عن التمويلات وعن الاستثمارات الأجنبية. إلاّ أنّ المانحين والمستثمرين الأجانب لا يمكن أن يخاطروا بأموالهم في بلاد لا تحسن إدارة ماليتها العمومية وتبذّر مالها في دعم “لا يذهب لمستحقيه” و”موظّفين متقاعسين” و”مؤسسات عمومية خاسرة”.
هذا هو جوهر خطاب التأنيب الذي يُسَوٌق به كل الببّغاوات الإعلامية للهجمة القادمة لصندوق النقد الدولي. خطاب تعدّدت الكتابات في تفكيكه وإظهار الجانب الإيديولوجي فيه2
. يبقى الإشكال هنا أنّ خطاب هؤلاء كالرياح: لا متن له لكنّه يحرّك غبارا كثيفا يحجب الرؤية. فمن ناحية يجرّنا خطاب التأنيب إلى معارك دفاعية مرّة عن المرافق والمؤسسات العمومية وأخرى دفاعا عن الدعم ويكتفي خطابنا بالتشبّث بالموجود، لننخرط مثلا في نقاشات من قبيل الدعوة إلى إصلاحات جبائية أو فرض ضرائب استثنائية لنُقنع الطرف المقابل بأنّ “الأموال موجودة”. وهنا الجانب السلبي الآخر في خطاب هؤلاء: وهو أنّنا ننسى حتى أنّنا نعيش في حالة مستمرة من “الإصلاح الهيكلي”، بما يفرضه علينا من طرق وآليات تفكير وتناول للشأن العام ولغة نستعملها للحِجَاج. فصرنا نتحدّث عن “إصلاح جبائي” و”إدماج للقطاع الموازي” ونعتبر عجز الميزانية عيبًا والتضخّم أمّ الكوارث. لكن، بالأخص، في كل مصيبة تأتي على البلاد، ندعو إلى “محاسبة المسؤولين” وننسى أن سياسات “الإصلاح الهيكلي” هي سياسات شاملة مسّت جميع مفاصل الدولة منذ أواسط الثمانينات ولا يمكن عزل أي ظاهرة من الظواهر التي نعيشها اليوم عن الخراب الهيكلي الذي لحق البلاد منذ بداية تطبيق تلك السياسات.
“إنّ أكبر حيلة قام بها الشيطان هو إقناعنا بأنّه غير موجود”. هكذا هو “الإصلاح الهيكلي”. فإنّ تواصله لسنين جعله كجزء من المناخ العام، ممّا خلق حالة من العجز والعطالة الفكرية وجعلنا ندور في حلقة مفرغة: إمّا الخطاب العام عن “سياسات الحكومات المتعاقبة” الذي يرفعه تقريبا الجميع حتى من كان جزءا في الحكم، وإمّا خطاب البحث عن “مسؤول” ليكون “مسؤولا” عن كل شيء. وبين هاذيْن الخطابيْن تبقى لنا بعض القناعة بإمكانيّة أن تصير اﻷمور على ما يرام. فإنْ تسبَّبَ عطَب في المصعد في القضاء على حياة شابّ، فإنّ ذلك بسبب تقاعس موظف أو فساد مسؤول، لا بسبب دولة فُرض عليها حتى التقشف في الأساسيات وألاّ تسدّد مستحقات المتعاونين معها ولا تُصلح حتى الأعطاب البسيطة كي لا يتجاوز العجز في الميزانية نسبة 3%. وكأنّنا مازلنا على قناعة بأنّه رغم حالة الخراب الهيكلي التي نعيشها تظلُّ هناك إمكانية لتصير الأمور على ما يرام إن قامَ كُلّ بدوره.
وما من دليل أفضل على ذلك من أننا لن نجد أيّ مسؤول عن وفاة أربعة عشر إنسانا اختناقا بسبب عدم توفر أسرّة الأكسجين3
، ويمرّ الخبر مرور الكرام لأنّنا مقتنعون أنّه لا يمكن أن نُحمِّل المسؤولية لأيّ شخص: لا إطارات المستشفى ولا وزير الصحة ولا حتى رئيس الحكومة، كأننا اقتنعنا أن الحالة على ما هي الآن عادية ولا يُمكن تغييرها وأنّ كل هؤلاء “المسؤولين” هم موجودون فقط لإدارة الشأن اليومي بما هو كائن. عدم تحميل المسؤولية في ظلّ غياب إمكانية تحميلها لأشخاص له اسم واحد: التخلي عن رؤية تسيير الشأن العام كشأن سياسي والاكتفاء بنظرة إدارية تكنوقراطية للأمور. وألاّ نرى ما يحدث اليوم كأمر فرضه أصحاب القرار على التونسيين في لحظة ما من التاريخ، بل كشأن عاديّ وكأنّ الأمور لا يمكن أن تكون إلّا على هذه الحالة بما أنّنا “دولة فقيرة”. ونتخلى بذلك عن فكرة أنّ تغيير هذا الواقع مسألة سياسية تتطلّب انخراطا جماعيا لتحويل موازين القوى، مثلما كان فرضُ هذا الواقع مسألة سياسية سمحت بها موازين قوى مختلّة لصالح ايديولوجيا السوق. فأنْ يسقُط بدر الدين من مصعد معطّب هي مسألة سياسية. أن يُلقَى بعشرات المواطنات والمواطنين دون أيّ اعتبار لكرامتهم في غرفة يتقاسمون فيها بعض الأكسجين في قسم الاستعجالي لأحد أكبر مستشفيات البلاد هي مسألة سياسية. أن تجرف مياه الفيضانات الفتاة مهَا وهي عائدة من المدرسة هي مسألة سياسية. أن يموت الرضّع سويعات بعد ولادتهم و يتمّ تسليمهم في علب كرتونية هي مسألة سياسية. كلّ تلك المآسي لها قاسم مشترك: هو عجز الدولة عن حماية الناس وكرامتهم. وذلك العجز له اسم: هو ما سميّ بالـ “إصلاح الهيكلي”. وله أسس نظرية بعيدة كلّ البعد عمّا يردّده الببّغاوات. وله تأثير مباشر على حياتنا وكرامتنا وتمثلنا للعالم.
هذا النص وما سيليه سيكون محاولة للحفر في ذاكرة هذا العجز التي تسببت فيه سياسات “الإصلاح الهيكلي”، أسبابه والسياقات التي أدت إلى فرضه، أسسه النظرية ومختلف المراحل التي أدّت بنا إلى الحالة التي نعيشها اليوم. وذلك ابتداءً من المرحلة السابقة لفرض الإصلاح الهيكلي (1975-1985)، التي وصلت فيها البلاد إلى حالة من الوهن ممّا سهّل على صندوق النقد فرض ما يريد، مرورا بمرحلة تفكيك الدولة (1986-2010)، أين وقع تطبيق “توصيات” صندوق النقد الدولي، لنصل إلى زمن التكنوقراط وموظفي المؤسسات الدولية (2013-2019) عندما دخلت البلاد زمن “التوحّش الناعم”، بعد أن فرض السياق الثوري على حكومات السبسي والنهضة التراجع عن بعض إجراءات التقشف.
ونشهد في فترة توّحش التكنوقراط الناعم تدهورًا غير مسبوق لقيمة الدينار وارتفاعًا حادًا للمديونية، ما سيحوّل البلاد نهائيا إلى فريسة سهلة ويتمّ القضاء على ما تبقى من الدولة، كتعبير عن الرغبة الجماعية في حياة آمنة، ويُقدَّم المواطنون بضاعة بخسة في سوق الاستثمار في الهشاشة: سوق الصحة وسوق التعليم وسوق العمل، بأجور بخسة هربا من البطالة، وسوق الهجرة “القانونية” و”غير القانونية” للأدمغة والسواعد والأجساد إلى بلدان العالم النامي والخليج. ليصبح نهائيا هذا الوطن، دولة وأرضا وأجسادا، عرضة للابتزاز السهل من أجل حفنة من الدولارات.
نقطة البداية: التحريض على التداين ثم الانقلاب على قواعد اللعبة
شهدت بلدان الجنوب في أواخر السبعينات وأوائل الثمانينات ما اصطُلح على تسميته بأزمة المديونية. اذ وجدت أغلب هاته البلدان نفسها عاجزة عن تسديد ديونها الخارجية بسبب ثلاثة عوامل أساسيّة: أوّلها انخفاض أسعار الموادّ الأولية في الأسواق العالمية، وهو ما قلّص بشكل كبير موارد بلدان الجنوب من العملة الصعبة. ثانيها هو قرار المصرف الفيدرالي الأمريكي (الذي يلعب دور البنك المركزي) تحت قيادة بول فولكر الترفيع في نسب الفائدة المديرية لكبح جماح التضخم في الولايات المتحدة4
. هذا القرار أدّى إلى سلسلة من النتائج كان أوّلها رحيل الدولارات الموجودة في الأسواق العالمية إلى البنوك الأمريكية لتستفيد من نسب الفائدة المرتفعة، ثمّ ردّة فعل البنوك المركزية الأوروبية بالترفيع هي كذلك في نسب الفائدة لكي تحافظ على تلك الرساميل، وتسبّب ذلك في شح السيولة المتوفرة على الأسواق العالمية ممّا أدّى كذلك في الترفيع في قيمة الدولار. آخر هاته العوامل هو تعطّل النمو العالمي الذي أدّى إلى ركود الحركة التجارية العالمية ومن ثمّة تقلّص مداخيل بلدان الجنوب من الصادرات بصفة عامة.
بسبب هاته العوامل، ارتفعت مديونية بلدان الجنوب بصفة مفاجئة أوائل الثمانينات، وهي التي تعوّدت على الاقتراض لتمويل سياسات التنمية لديها، وفي نفس الوقت لسداد الديون السابقة. ووجدت نفسها عاجزة عن الاقتراض في الأسواق العالمية بسبب شحّ السيولة التي ذهبت حيث نِسَب الفائدة المرتفعة في نفس الوقت الذي شهدت فيه صادراتها ركودا كبيرا. ومنها انطلقت أزمة الديون في بلدان الجنوب، حيث كانت المكسيك أوّل دولة تعلن عجزها عن خلاص ديونها سنة 1982، لتليها البرازيل والأرجنتين وعشرين دولة أخرى من دول الجنوب5
. هنا يمكن أن يتدخّل اللائمون بالحجة الاخلاقية المعهودة: لِمَ التداين لمن لا قدرة لهم على سداد ديونهم؟! هنا علينا أن نعود بهؤلاء إلى السياق التاريخي في فترة ما بعد الحرب العالمية الثانية في الشمال وفترة نهاية الاستعمار في الجنوب.
في الشمال، وخوفا من سقوط بلدان أوروبا الغربية في أحضان الاتحاد السوفياتي، موّلت الولايات المتحدة الأمريكية برامج إعادة الإعمار في إطار ما اصطلح على تسميته “برنامج مارشال”. اذ ضخّت ما يقارب 13 مليار دولار (أي ما يقارب 100 مليار بالقيمة الحالية للدولار) في اقتصادات أوروبا الغربية6
بين 1948 و1952 أغلبها في إطار هبات (أنظر الجدول المصاحب). على سبيل الذكر لا الحصر، بلغ مجمل المديونية التونسية سنة 1970 مبلغ 545 مليون دولار7
… هذا ما أدّى إلى وجود كمّ هائل من الدولارات في البنوك الأوروبية، ممّا ولّد الحاجة لاستثمارها. فكان هذا الاستثمار في شكل قروض لبلدان إفريقيا وآسيا وامريكا اللاتينية. وهكذا وقع إغراق بلدان الجنوب في قروض ضعيفة الفائدة.
أما بلدان الجنوب، وعلى عكس ما يُرَوَّج له، فقد تُركَت في حالة من التصحّر على مستوى البنى التحتية والصناعة والتكنولوجيا، فكانت تُستغلّ فقط كمناجم للموادّ الأولية البترولية والفلاحية وكانت جميع البنى التحتية الموجودة مرتبطة بتلك النشاطات (يكفي النظر إلى خارطة السكك الحديدية التي أحدثها الاستعمار في تونس). كذلك كانت هاته البلدان تفتقد إلى أبسط المقومات الأساسية من صحة وتعليم. كدليل على ذلك مثلا في تونس كانت تغطية الواردات بالصادرات في الميزان التجاري التونسي في النصف الأول من الخمسينات تبلغ 66%8
بينما تمثل المنتوجات الفلاحية والموارد المنجمية والبترولية أكثر من 70% من الصادرات. كذلك كانت نسبة الأمية في مستوى 84,7% في أوّل تعداد سكاني في فيفري 1956 9
وأمل الحياة عند الولادة في تونس كان 42 سنة في 1960 بينما كان 70 سنة في فرنسا في نفس السنة10
. إذًا وجدت هذه البلدان نفسها في وضعية صعبة: ليست في مستوى العالم المتقدّم في مجالات التطور الصناعي والتكنولوجي، لكنّها تشهد في نفس الوقت تفكيكا لبُناها الاجتماعية والاقتصادية القديمة.
سلَكت إذًا أغلب هذه الدول ما سُمِّيَ بسياسات اللَحاق. وكان من منظّري هذه السياسات والت روستو (Walt Rostow)، الذي يقول أنّ ما تعاني منه البلدان “المتخلّفة” هو فقط تخلّف زمني وأن جميع البلدان تسلك نفس الطريق لتصبح متطوّرة. وعليه، انتهجت أغلب بلدان الجنوب سياسات تصنيع واستثمارات ثقيلة متشابهة والتجأت من أجل تحقيقها للتداين. تدايُنٌ تجاه البنوك التجارية للعالم المتقدّم، وكذلك تداين من مؤسسات التمويل التابعة لتلك البلدان أو من مؤسسات التمويل الدولية، وأهمها البنك العالمي، في إطار حرب التأثير التي خاضها معسكر الغرب ضدّ الاتحاد السوفياتي. وقد أسدى البنك العالمي القروض حتى للبلدان التي انتهجت سياسات بعيدة نسبيا عن ايديولوجيا السوق. فمثلا، في 1966، أي في عزّ ما سُمّي بالتجربة الاشتراكية في تونس، بلغت الإعانة الأمريكية ما يقارب 4 ملايين دينار11
والإعانة الفرنسية ما يقارب 4,8 مليون دينار لمجموع إعانات دولية تقدر بـ10 ملايين دينار وقروض الحكومة الأمريكية 14,8 مليون دينار والبنك العالمي 2 مليون دينار12
. ليبلغ مجموع القروض العمومية الخارجية 25 مليون دينار، وذلك في سنة بلغت فيها جملة مصاريف الدولة التونسية 161 مليون دينار… أمّا الدول التي حاولت انتهاج سياسات غير تابعة، فكان مصير قادَتها إمّا الاغتيالات مثل باتريس لومومبا في الكونغو في 61، سيلفانوس أوليمبيو في الطوغو في 63، سالفادور آليندي في شيلي سنة 73، عمر توريخوس بنما في 81، توماس سانكارا في بوركينا فاسو في 87، أو التدخلات العسكرية (للولايات المتحدة في أمريكيا اللاتينية، فرنسا في الغابون في 64 وفي الكامرون والتشاد في أواسط الستينات). أما البلدان العصية عن الاغتيالات والتدخلات العسكرية، فتُعَاقَب بجميع أنواع الحصار الاقتصادي والعسكري (كوبا).
إذا، كان سياقًا عالميًا يتميّز بتكدّس للدولارات في بنوك بلدان الشمال، ممّا جعلهم يبحثون عن استعمالها في إقراض بلدان الجنوب، التي بدورها كانت في حاجة إلى تمويل سياسات اللحاق. وقد كانت تقريبا الخطّ السياسي الوحيد الممكن آنذاك الذي لا يُحتّم تموْقعًا في أيٍّ من معسكرات الحرب الباردة. كذلك سياسات معسكر الغرب التي شجعت على تبنّي تلك السياسات، وفي نفس الوقت الحرص على تمويلها للمحافظة على قدرته في التأثير والتدخل في سياسات بلدان الجنوب. أي أنّ التدايُن في نهاية المطاف كان مُعطى جغراسياسي، ولم يكن مرتبطا بسياسات بلدان الجنوب كُلٌ على حدة. وهي في نفس الوقت سياسة حتّمت على بلدان الجنوب التعويل على الصادرات من الموادّ الأولية (المنجمية أو الفلاحية) لتعديل ميزان الدفوعات وخلاص ديونهم. كان الجميع إذا منتفعين بقواعد هذه اللعبة غير المكتوبة: القروض الرخيصة لتمويل اللحاق مقابل عدم الاصطفاف وراء معسكر الشرق. عدم الاصطفاف وراء المعسكر الشرقي مقابل ازدهار التجارة العالمية في ظلِّ وضع عالمي يتّسم بمعدّلات نمو مرتفعة. إلى أن انقلبت اللعبة بعد الأزمة البترولية، وتراجع بلدان الشمال عن مبدأ حرّية المبادلات في ظلّ انخفاض معدّلات النمو عندها. فارتفعت نسب الفائدة لكبح جماح التضخّم. لعبة لم يكن لبلدان الجنوب فيها لا ناقة ولا جمل ولا قدرة على السيطرة على قواعدها…
1975-1985: عشرية ما قبل الإصلاحات في تونس.
في تونس بدأت بوادر الأزمة في أوائل السبعينات مع الأزمة البترولية، التي أدّت إلى ارتفاع كبير في الأسعار العالمية ومن بينها أسعار الموادّ المُوَرَّدَة. ولئن قاومت تونس هذا الارتفاع بداية الأمر نظرا لأنّها كذلك من البلدان التي انتفعت من ارتفاع سعر الموادّ البترولية، فإنّها تعرّضت إلى ردّات الفعل العكسية عبر ارتفاع الأسعار. لكن كذلك بسبب السياسات الحمائية لـ”شركائها” الأوروبيين. والتجأت بذلك إلى مزيد الاقتراض لتعديل ميزان الدفوعات الخارجية.
فقد تفاقم العجز التجاري بعد الأزمة البترولية انطلاقا من سنة 1975. اذ ارتفع العجز التجاري مع بلدان المجموعة الأوروبية بنسبة 235% بين 1974 و1976 جرّاء نزول أسعار أهم الموادّ التي تُصدّرها البلاد التونسية (أساسا زيت الزيتون والفسفاط ومشتقاته) وبقاء أسعار موادّ التوريد على حالها، لكن كذلك جرّاء السياسة الحمائية التي مارستها بعض البلدان الأوروبية. فمثلا تدهورت مبيعات زيت الزيتون أساسا نحو بلدان أوروبا بنسبة 55%13
سنة 1975 وذلك بسبب غلق إيطاليا حدودها أمام زيت الزيتون التونسي ودفعها في نفس الوقت جيرانها لعدم استيراده. كذلك بسياسة فرض أسعار دنيا على المنتوجات الخارجية لا يمكن أن تنزل تحتها أسعار بعض الموادّ الفلاحية، وذلك حماية لمنتجاتها14
، كما فرضت فرنسا نفس السياسة على منتوجات النسيج.
هذا ما دفع الدولة التونسية إلى مزيد من الاقتراض الخارجي. ولأولّ مرة في تاريخ “دولة الاستقلال” التجأت إلى الاقتراض من الأسواق المالية بمبلغ 125 مليون دولار في 1976 و150 مليون دولار في 1977، ممّا ادّى مباشرة إلى ارتفاع نفقات خلاص الفوائد سنة 1978 بـ 50,4%. وكانت تلك أول حلقة في دوّامة المديونية التي ستدخلها تونس. فالدولة التونسية كانت نوعا ما مسيطرة على مديونيتها قبل الأزمة البترولية، لكن ذلك كان يخفي هشاشتها أمام الأزمات العالمية، والعشرية التي تلت الأزمة البترولية كانت خير دليل على ذلك. فالاقتصاد التونسي مرتبط عضويّا بالأوضاع الخارجية من ناحية توفير العملة الصعبة أساسا في خانات التصدير والاستثمار الخارجي والسياحة.
من ناحية أخرى، يبقى التصدير رهينة إمّا لقرارات تعسّفية، مثل القرارات الإيطالية والفرنسية ضدّ زيت الزيتون والنسيج، أو كذلك لنشاط الاقتصاد العالمي حيث أنّ حالات الركود في نسبة النموّ تؤثر مباشرة على الصادرات وعلى الاستثمارات الأجنبية مثلما حدث ابتداءً من سنة 1981 (أنظر الرسوم البيانية). فقد انخفضت نسبة النمو العالمية من 4% سنة 1979 إلى 1,9% سنتي 1980 و1981 وحتى 0,4% سنة 1982 جرّاء سياسة ترفيع نسب الفائدة التي سلكتها الولايات المتحدة. وهو ما أثّر مباشرة على الصادرات التونسية التي انخفضت قيمتها بالدولار الأمريكي بـ20% سنة 1982 وواصلت انخفاضها في السنوات الموالية، وكذلك أثرت في الاستثمارات الأجنبية المباشرة15
التي انخفضت قيمتها بالدولار الأمريكي بنسبة 46% سنة 1983 وزاد تدحرجها بنسبة 38% سنة 1984 16
. كذلك وتزامنا مع حالة ركود الاقتصادي العالمي، أثّرت العلاقات المتوتّرة مع ليبيا على المداخيل السياحية سنة 1984 متسبّبة لأول مرة في تاريخ تونس في تراجع المداخيل السياحية بنسبة 8%17
.
إحتياطي الصرف (بالأشهر) 1975-1985
خدمة الدين الخارجي (بالمليون دولار) 75-85
وكان ختامها بطرد 30 ألف عامل تونسي بليبيا سنة 1985، ممّا تسبّب بخسارة قدّرها البنك المركزي ب50 مليون دينار نظرًا لتراجع مداخيل العمل (أي الأموال التي يرسلها العمّال التونسيون بالخارج) بنسبة 8%… كلّ واحدة من تلك الأزمات كانت تؤثر تأثيرا مباشرا على مداخيل الدولة التونسية من العملة الصعبة وكان كلّ نقصان يتم تعويضه وجوبا لا اختيارا عبر الاقتراض الخارجي. وما دليل ذلك إلّا لجوء الدولة التونسية إلى السوق المالية العالمية مجدّدًا في 1982 و83 و85 رغم الارتفاع المشطّ في نسب الفائدة18
. كلّ ارتفاع في نسبة الاقتراض خلال العشرية 75-85 كان سببه نقصان في أحد الموارد الأساسية من العملة الصعبة، وهي أساسا عوامل خارجية (الصادرات، الاستثمارات الأجنبية والسياحة)، أي خارجة على السيطرة المباشرة للدولة التونسية (أنظر الرسم البياني المصاحب)
وبطبيعة الحال، كلّ ما تحدّثنا عن الاقتراض تحدّثنا كذلك عن المبالغ المرصودة لتسديد تلك الديون. لم تكن خدمة الدين عالية قبل تلك العشرية ولم ترتفع خلال السنتيْن الأوليَيْن. لكنّ الأمر سيأخذ مَنْحًى تصاعديًا بداية من سنة 1977 عندما تطوّرت خدمة الدين بنسبة 22% ليصل تطوّرها إلى 44% في 1978 و35% في 1979 و57% في 1981، ليتواصل التطور بعد ذلك بنسب معقولة أكثر بقليل لكن دون النزول تحت نسبة 14% 19
. ونلاحظ أنّ مُنحَنى خدمة التداين لحق بمنحنى الاقتراض انطلاقا من سنة 1980 ولن يتفارقا حتى 1985: مزيد من الاقتراض يستوجب مزيدا من خدمة الدين وخدمة الدين تلك ستستوجب هي نفسها مزيدا من الاقتراض. الرقم الذي يلخّص كل ذلك: ارتفعت خدمة الدين بـ500% من 1976 إلى 1980…
وإن زدنا على ذلك ارتفاع قيمة الدولار وبقية عملات الاقتراض بداية من سنة 1981، ليفقد الدينار التونسي 50% من قيمته أمام الدولار الأمريكي من 1980 إلى 1985، فإنّ فاتورة خدمة الدين كانت تزداد ثقلا على كاهل الدولة التونسية. اذ تطورت نسبتها من الناتج المحلي الخام من 6% سنة 1980 إلى قرابة 9% في 1985، أي بزيادة قدرها 50%، وتطوّرت في نفس الفترة نسبتها من جملة الصادرات من 16% إلى 27% ليصل احتياطي الصرف إلى أقل من شهر توريد نهاية 1985 20
. ويكون بذلك المجال واسعا لتدخل صندوق الدولي “لينقذنا” من حالة الاختناق هذه ويفرض ما سُمِّيَ ببرنامج الإصلاح الهيكلي.
إذًا هو سياق دولي تسوده الأزمات والتحولات المفاجئة في سياسات دول الشمال التي تؤثر مباشرة على اقتصادات دول الجنوب. لكنّ تدخل الصندوق سيكون موجّهًا أساسا نحو الأخيرة رغم أن الأزمة تتجاوزها وتتجاوز ما يمكن أن تقوم به في الداخل. ولإن يعترف صندوق النقد الدولي على لسان نائب مديره العام ريتشارد آرب بأنّ هاته الأزمة لها “أبعاد دوليّة”، فإنه في المقابل يُطنب في خطاب اللوم والتأنيب. ففي نفس الكلمة التي ألقاها بنيروبي في ماي 85، فهو يُقِرّ بأنّ <<المناخ الاقتصادي الدولي في أواخر السبعينات وبداية الثمانينات كان له تأثير مُعتبر على اقتصادات البلدان الافريقية. فارتفاع أسعار النفط تزامنا مع نزول أسعار صادرات البلدان الإفريقية تسبّب في تدهور في شروط التبادل (terms of trade) لأكثر تلك البلدان. كذلك تسبّب الارتفاع الحادّ في أسعار الفائدة العالمية في ارتفاع مماثل لسعر الاقتراض من الأسواق المالية والبنوك العالمية. وحتى البلدان التي عادة ما تقترض من المؤسسات الدولية شهدت انخفاضا في تدفق تلك القروض بسبب انكماش النمو على المستوى العالمي الذي أثر على أهم الدول المانحة>>21
. بعد أن وصف لنا هذه الصورة القاتمة، لم يجد حرجًا في أنْ يلوم بلدان الجنوب بعد دقائق قليلة ليقول أنّه <<بالرغم أن المناخ الخارجي غير المناسب ساهم في الصعوبات التي تعيشها أغلب الدول الافريقية، فإنذ هذه الصعوبات ساهمت في إظهار بعض التصلبات الداخلية واختلال بنيويّ للتوازنات تمّ السماح بوجودها لتحقيق النموّ. دون التقليل من شأن العوامل الخارجية، فإنه وجب الإقرار بأن النموّ واستقرار ميزان الدفوعات لكل دولة هو مسؤوليتها وهو مرتبط أساسا بسياساتها الداخلية>>.
لن نتفاجأ إذًا عندما نرى أنّه لا علاقة للوصفات التي يقترحها صندوق النقد الدولي في تدخلاته بواقع الأزمة، وأنّها فقط من قبيل الرعونة الاقتصادية، رغم ما سيحاول أن يضفيه من تماسك علمي لخطابه الإيديولوجي وذلك بالتعويل على التجريد الرياضي. سيحاول الجزء القادم من هذا النص أن يخوض في الإطار النظري الذي يستعمله صندوق النقد لإسناد الإجراءات التي يفرضها على بلدان الجنوب لتمكينهم من تمويلاته، ويحاول أن يفهم وجاهة تلك الإجراءات من خلال المنطق العام لذلك الإطار النظري، ويقدّم أخيرا عرضا مختصرًا عن الدراسات التي قدّمت نقدا لذلك الإطار من الداخل، أي بالنظر إلى وجاهة الفرضيات والمعادلات التي تمّ استعمالها. دراسة الإطار النظري للإصلاحات ستمكنّنا من رؤية أنّ عِلميّة الحجج التي يستعملها الخبراء أوْهن من بيت العنكبوت، لا فقط من زاوية أثرها اليومي على حياة البشر، بل كذلك من زاوية وجاهتها العلمية لنحاول دحض فكرة أن برامج الإصلاح الهيكلي فشلت بسبب عدم تطبيقها بصفة جيّدة وأنّ بلدان الجنوب هي أيضا مذنبة لا فقط في تداينها واختلال ميزان دفوعاتها، بل كذلك في فشلها في تطبيق وصفات الصندوق.
المراجع:
[Bes] بسباس وليد، لا تُدار الدولة كما تدار شؤون المنزل – دليل الحاكم للحرص على الأرواح دون أن يخشى التضخم، مجلّة إنحياز (إلكترونية)، سبتمبر 2020.
[Fek] Fekih Hakim, “Trop de dépenses, trop de fonctionnaires”? Déconstruire le mythe, Nawaat.org, Novembre 2020.
[Hel] Africa and the International Monetary Fund, Edited by Gerald K. Helleiner, Papers presented at a symposium held in Nairobi, Kenya, May 13-15, 1985.
[Jou] الجويلي مصطفى، المؤسسات العمومية: التدمير الممنهج و مغالطات خطاب الخوصصة. مجلّة الدرب (إلكترونية)، نوفمبر 2020.
[Kab] Kaboub Fadhel, From Neoliberalism to Social Justice: The Feasability of Full Employment in Tunisia, Review of Radical Political Economics · August 2012 pp 305-312.
[Lam] لامين أسماء، “وكالة التبغ والوقيد…. الى أين؟” مجلّة الدرب (إلكترونية)، نوفمبر 2020
[MiTo] Millet Damien, Toussaint Eric. 65 Questions/65 Réponses sur la dette, le FMI et la banque mondiale. Editions du CADTM, 2012.
[Tar] Tarifa Chadli. L’enseignement du
premier et du second degré en Tunisie. In: Population, 26e année, n°1, 1971.
pp. 149-180.
1.
مذكور في [Kab] في الصفحة 306.
2.
أنظر مثلا في السنة الأخيرة [Jou] و [Lam] و[Fek] و[Bes].
3.
“عبد الملك: نهاية الأسبوع سجلنا 14 وفاة في مستشفى الرابطة بسبب نفاد أسرة الإنعاش“ شمس أف.أم، خبر بتاريخ 5 أفريل 2021.
4.
أنظر [MiTo] في الصفحات 53-55
5.
أنظر التقرير السنوي للبنك المركزي التونسي لسنة 1982 (ص19-20)
6.
أنظر [MiTo] في الصفحة 37.
7.
أرقام البنك الدولي.
8.
أنظر تقرير البنك المركزي التونسي لسنة 1960 في الصفحة 36.
9.
أنظر [Tar] في الصفحة 152.
10.
أرقام البنك الدولي
11.
أي 8 ملايين دولارر بسعر صرف 0,525 دينار للدولار الواحد. أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1966 في الصفحة 54.
12.
أنظر نفس المصدر في الصفحة 57.
13.
أنظر تقرير البنك المركزي التونسي لسنة 1975، ص86
14.
أنظر تقرير البنك المركزي التونسي لسنة 1977، ص98
15.
سنترك مؤقتا جانبا الأثر السلبي للإستثمارات الأجنبية على ميزان الدفوعات بما يسببه تحويل المرابيح بالعملة الصعبة إلى الخارج من اختلال متزايد عاما بعد عام.
16.
أرقام البنك الدولي
17.
أنظر تقرير البنك المركزي التونسي لسنة 1984، ص119.
18.
أقتراض مبالغ قدرها 20 مليون دينار في 1982 و50 مليون دينار في 1983 و106 مليون دينار في 1985 (المصدر: تقارير البنك المركزي)
19.
أنظر تقرير البنك المركزي لسنة 1984، ص127
20.
أرقام البنك الدولي
21.
أنظر [Hel] في الصفحة 16.