لم تخلُ المواسم الفلاحيّة السّابقة في تونس من صعوبات ومشاكل طالت المحاصيل والفلّاحين تارةً والأسعار تارةً أخرى. إلّا أنّ هذا الموسم بالذّات أثار جدلاً واسعًا بين رواية رسميّة ركّزت على زيادة الإنتاج مُقارنةً بالسنوات الفارطة وبين رواية الفلاّحين، الصغار منهم خاصّةً، الذين اعتبروا ما حصل كارثة حقيقيّة.
في هذا السياق، أجرى موقع ’انحياز‘ تحقيقًا صحفيًا، تناولنا فيه شهادات لبعض فلاحي الزياتين أساسًا، وحوار أول مع أيمن عميّد، المدير التنفيذي لمرصد السيادة الغذائية والبيئية، وحوار ثان مع العايش عمامي الناشط في مجالات السيادة الغذائية وقضايا صغار الفلاحين والسياسات الفلاحية عمومًا، منطلقين من أزمة زيت الزيتون والبطاطا لهذا الموسم.
البطاطا وزيت الزيتون: وجهان لذات السياسات الفلاحيّة
لطالما تعلّقت أولى التصريحات الرسميّة بالتركيز على الإنتاج وغزارته ومقارنته بالسنوات الفارطة. وهو ما عبّر عنه حامد الدّالي، الرئيس المدير العام للديوان الوطني للزيت، هذا العام أيضًا مبشّرًا التونسيّين “بزيادة في الإنتاج وصلت 50% مقارنة بالموسم الفارط”.
ويُفسّر الدّالي انخفاض الأسعار بقاعدة العرض والطلب في السوق العالميّة، وبزيادة الإنتاج عالميًا بنسبة 30% مقارنة بالسنة الماضية التي عانت خلالها إسبانيا وإيطاليا من صعوبات مناخية أثّرت على إنتاجهما للزّيت. ويُضيف الدّالي أنّ انخفاض الأسعار في تونس مرتبط بالسّوق العالميّة.
يبدو ذلك منطقيًا بما أنّ تونس تصدّر 90% من صابة زيت الزيتون إلى السّوق العالميّة. ولكن لنا أن نسأل، في المقابل، عن الضرر الحاصل نتيجة هذا التركيز على التصدير وعلى تحصيل العملة الأجنبية (أو “الصعبة” كما يقال).
في حوار أجراه موقع ’انحياز‘ مع أيمن عميّد، المدير التنفيذي لمرصد السيادة الغذائية والبيئيّة، الذي يعمل على السياسات الفلاحية، شرح مُحدّثنا أنّ الصعوبات التي رافقت هذا الموسم الفلاحي تتعلّق بهذه السياسات الفلاحيّة التصديريّة أساسًا.
إذ اعتبر عميّد أنّ للأزمة أسباب هيكليّة ترتبط بتعامل المسؤولين السياسيين مع القطاع الفلاحي، فهُم “يعتبرون الفلاحة قطاعًا مُربحًا، عوض التفكير أولًا في أنّ هذا القطاع يوفّر الغذاء للتونسيّين”.
كما أضاف عميّد أنّ هذه السياسات، القائمة على تشجيع المستثمرين والإنتاج فقط، تضرب مصالح صغار الفلّاحين الذين يوفّرون 80% من احتياجات السوق الداخليّة، والمواطنين على حدّ سواء.
وبالنّسبة للبطاطا، أكّد ضيفنا أنّ الإنتاج كان طبيعيًا للغاية مقارنة بالمواسم السّابقة.
ويُمكن ملاحظة أنّ خوف المُحتكرين الخواص من تهديدات الدّولة بتشديد مُراقبة المخازن أدّى إلى عدم تخزين كميات هامة من سلعة البطاطا وإلى اضطرابات في توفرها في السّوق وفي أسعارها.
ويُضيف عميّد أنّ الدّولة مُطالبة، على المدى الاستراتيجي، بتولّي مهمة التخزين حتى تتمكن من ضخ البضاعة في السّوق حسب حاجياته، وللتحكّم في الأسعار ولتعديل السوق عند الحاجة.
التّصدير وما يُقابله من ضرب منظومات الإنتاج
يقودنا الحديث عن منظومات الإنتاج، إلى الإشارة لصغار الفلاحين والفلاحات الذين يمثلون حلقة مركزيّة فيها.
ومن أجل مزيد فهم ظروف هؤلاء وكيف ينظرون إلى تحدّيات الموسم الراهن، تنقّل فريق ’انحياز‘ لمنطقة الخرشف (معتمدية منزل بوزيّان، ولاية سيدي بوزيد)، الأولى وطنيًا هذا العام في إنتاج زيت الزيتون. هناك عاينّا المشاكل الكُبرى التي يعانيها فلاحو المنطقة، كغيرهم ببقيّة المناطق الفلاحيّة، جرّاء الانخفاض الكبير الذي تشهده أسعار منتوجهم.
إذ أنّ جلّ هؤلاء لم يجمعوا محاصيلهم حتّى اللّحظة نتيجة تواصل تدهور الأسعار، معتبرين أنّ كُلفة الإنتاج تجاوزت بكثير سعر بيع اللتر الواحد من الزّيت. بعض الفلاّحين لم يتمكنوا حتى من تغطية كلفة الماء والكهرباء والحراثة والجمع، وظلّوا يُراكمون الديون التي ظنّوا أنهم سيتمكنون من سدادها خلال الموسم الحاليّ.
ويؤكد صغار الفلّاحين الذين تحدّثنا إليهم أنّ الدّولة تُطالبهم بالإنتاج وبالزيادة في الإنتاج سنويًا، ولكنّها في المُقابل لا توفّر لهم الدّعم اللّازم للحفاظ على فلاحتهم، خاصّة أنّهم يعولون على مداخيل الصّابة لتغطية كلفة الإنتاج ومعيشتهم لمدّة عاميْن (بما أنّ إنتاج الشتلات التونسيّة يكون وافرا مرّة كلّ سنتيْن).
كما شهد الموسم الحاليّ تراجع العديد من الوسطاء عن “التّخضير” (شراء المحاصيل من الفلاح قبل الجمع) نظرًا لتدنّي الأسعار. بل أنّ البعض منهم استردوا جزءًا من أموالهم من الفلاحين نتيجة الخسائر التي تكبّدوها.
تدفع كلّ هذه الصعوبات العديد من صغار الفلّاحين للتّفكير جديًا في التراجع عن الاستثمار في فلاحة الزياتين في المواسم المُقبلة، وهو ما يُهدّد منظومة إنتاج زيت الزيتون.
بالمقابل، يبقى كبار المستثمرين وحدهم قادرين على غراسة كميات كبيرة من أشجار الزيتون الأجنبية (من الشتلات الإسبانية واليونانية والإيطالية)، بحجة قدرة هذه الأصناف على الإنتاج السريع. في المقابل، يتجاهل المشرفون على قطاع الفلاحة الأضرار التي تلحقها هذه الأصناف بالمائدة المائية وخصوبة الأراضي الزراعية.
وما بيْن التصريحات الرسمية التّي تركّز على النجاحات التي يُحققها تصدير زيت الزيتون إلى السوق العالميّة وتحسين الإنتاج من عام إلى آخر، ومعاناة صغار الفلّاحين الذين تُقابل مشاقهم بالربح الصغير حينا وبالخسارة أحيانا أخرى، يبدو أنّ ما يشغل بال المسؤولين، أولا وقبل كل شيء، هو جلب العملة الأجنبيّة. وهي حال كلّ الاقتصادات التّابعة التي تعاني من ذات المعضلة مع انخراطها في النظام الاقتصادي العالمي.
إذ تجد هذه الاقتصادات نفسها مُطالبة بتمويل وارداتها الأساسيّة (الغذاء والأدوية والطاقة الخ…) والكماليّات (السيّارات، مواد التّجميل الخ) من السّوق العالميّة مع ضعف / انعدام التصنيع المحلّي، وبتوفير احتياطي يُمكّن المستثمرين الأجانب من من تحويل مرابيحهم، وبخلاص ديونها الخارجيّة. يحصل كل هذا تحت ضغط المؤسسات الدولية المانحة (البنك العالمي وصندوق النقد الدولي وغيرهما) التي تجبر هذه الاقتصادات على تصدير السلع الأولية من معادن وثروات طبيعية ومحاصيل غذائية من أجل حصولها على العملة الأجنبيّة، عوض التركيز على فلاحة وصناعة موجّهتيْن بالأساس لخدمة السّوق المحلّية.
ورغم ما توفّره مداخيل تصدير زيت الزيتون من عملة أجنبيّة، في ظلّ كل الصعوبات الماليّة التي تعانيها تونس، إلاّ أنّ الفلاّحين والفلّاحات لوحدهم يتحملون انعكاسات سياسات الفلاحة التصديريّة.
الصّعوبات موسميّة، والمشاكل هيكليّة
في لقائنا معه، أكّد العايش عمامي، الناشط في مسائل السيادة الغذائية والسياسات الفلاحيّة بجهة سيدي بوزيد، أنّ هذه الصعوبات الموسميّة تعود، رغم احتدامها هذا العام، إلى سياسات هيكليّة وُضعَت منذ سنوات.
ويؤكّد عمامي أنّ المُنجز الذي حقّقته تونس بفضل بعث الدواوين الفلاحيّة (ديوان الحبوب وديوان الزيت كمثال) عقب استقلالها، واحتكار الدّولة لبيع الأعلاف، قد تمّ ضربه تدريجيًا، خاصّة منذ أواسط التسعينيّات.
إذ أنّه، وحسب محدّثنا، تمّ ضرب منظومة إنتاج الحليب أولًا، بعد أن كانت تونس بلدًا يحقق حاجياته الداخلية ويصدّر الفائض منها، ومن ثُمّ وقع ضرب منظومة إنتاج الدواجن واللحوم، مرورًا بمنظومة إنتاج الحبوب، ووصولًا إلى منظومة إنتاج الزيت.
كما يُضيف عمامي أنّ تخلّي ديوان الزيت منذ 2008 عن لعب دوره في تخزين واحتكار تصدير زيت الزيتون لصالح الخواص، وضرب بُنيته التحتيّة بعد ذلك، جعله عاجزًا اليوم عن حلّ مشاكل صغار الفلّاحين.
وعن مشاكل هذه السنة بالذات، أجابنا عمامي أنّ السلطة عجزت وأساءت إدارة الملفّ منذ البداية.، إذ أنها حتى بإيقاف أحد كبار المُصدّرين في ذروة الموسم تحت شعارات “مكافحة الفساد”، أتاحت أسواقًا عالميّة لصالح إسبانيا وإيطاليا من جهة، وأضرّت بصغار الفلاّحين من جهة أخرى.، فقد تحوّل عندهم هامش الربح الصغير في السنوات الفارطة إلى خسائر كبرى وعجز هام، يجعل من منظومة الإنتاج مُهدّدة في المجمل.
ينفرد مجمّع CHO الذي يرأسه المخلوفي بتصدير 55% من زيت الزيتون المعبّأ وب20% من الزيت التونسي، وبحسب الفلاّحين الذين التقيناهم فقد تسبّب إيقافه (أي المخلوفي) بضرر لهم هذا العام، إذ غابت جهة هامّة اعتادت شراء منتوجهم، من أجل تصديره لاحقا.
أمّا الدّولة، فيبدو أنها لم تعدّ بديلا واضحا من أجل الحفاظ على سقف الأسعار الذي يُمكّنهم، حسب أقوالهم، من هامش الرّبح المعهود.
يواصل عمامي في السياق ذاته، وبغضّ النظر عن موقفه من الشّخص المذكور أعلاه، فيعتبر أنّ الدّولة بهذا الإجراء، قد خسرت أسواقا عالميّة في شرق آسيا وأمريكا اللاتينية أيضا.
وعند الحديث عن سياسات عموميّة تضمن الحدّ الأدنى من الاستقرار لمواطنيها وللمنتجين الفعليّين في قطاع حيويّ كالفلاحة، لا بدّ أن نتساءل كيف تُرهن مصائر ربع مليون فلاح وفلاحة (حسب الرقم الذي ذكره عمامي)، بمُستثمر واحد يركّز كل نشاطه على غراسة الشتلات الأجنبية المنهكة لتربتنا وعلى تصدير مادّة تُشكّل مقوما من مقوّمات سيادتنا الغذائيّة؟
أين نحن من السّيادة الغذائيّة؟
في بلد تغيبُ فيه أرقام واضحة وإحصائيات رسميّة عن عدد الفلاّحين وعن كيفيّة توزيعهم، تُواصل الدّولة حل مشاكلها الماليّة دون إيلاء اهتمام يُذكر بمسألة السيادة الغذائية. فتونس التي تنتج قدْرًا هامًا من زيت الزيتون، ويملك كل مواطن فيها 7 أشجار زيتون إذا تمّت قسمة عدد الأشجار على عدد المواطنين (حسب ما ذكر أيمن عميّد)، تستورد الزّيت النباتيّ بنفس العملة الأجنبيّة التي تُصدّر بها زيت الزيتون. وتونس التي تُساهم في السوق العالميّة بزيتها عالي الجودة وغير المُثمّن (إذ أنّ تثمينه وتعليبه يتمّ من قبل دول أخرى لتعيد بيعه بأسعار مرتفعة)، تعرف صعوبات هائلة وبشكل مُتكرّر في أسعار الزيت في سوقها الدّاخليّة. ويبدو أنّ السؤال الذي يبقى راهنيًا في كلّ مرّة هو مدى قُدرتنا على تحقيق سيادة غذائية حقيقيّة وبلورة سياسات فلاحيّة مُنتجة وموجّهة تُوفّر الدّعم لفلّاحيها وتُلبّي غذاء مواطنيها قبل أيّ اعتبار آخر.