امتحان الفلسفة بين البشر والذكاء الاصطناعي

Ayaadi
بقلم عيادي العامري
باحث في قسم الفلسفة بكلية الآداب والعلوم الإنسانية بصفاقس، ومشارك في تأسيس المقهى الفلسفي، ناشط اجتماعي وسياسي.




[1]“التعلم هو السلاح الأقوى الذي يمكن للإنسان استخدامه لتحقيق الحرية والتحرر”

جون ديوي

“إذا كان لدى الذكاء الاصطناعي أهداف مختلفة عن أهدافنا، فمن الأمر المنطقي أن يتصرف بطرق لا نستطيع التنبؤ حولها أو فهمها بالكامل”[2]

بوستروم

محاكاة لجداريه خلق ادم’لمايكل انجلو’ بشكل يجمع يد الإنسان ويد صناعية للإشارة للذكاء الاصطناعي.

يبدو أننا نتجه نحو ثورة في مجال الذكاء الاصطناعي وفي طبيعة تأثيره في الحياة اليومية للبشر، هذا الأمر لم يعد مجرد تخمينات، بل أحداث ووقائع في جميع المجالات. فإن كانت التخمينات والقراءات الفلسفية لم تكفّ عن مزيد التوجه ناحية تحويل “الذكاء الاصطناعي” إلى مجال متعدد الزوايا من مجالات التفكير، منها ما هو سياسي وأخلاقي (يورغان هابرماس)، ومنها ما يخص إشكالات معرفية ووجودية (بيتر سلوتردايك). إلاّ أنّ هذا الذكاء الاصطناعي وتطبيقاته المتنوعة لا يتركان مجالاً إلا واخترقاه:  نموّ بسرعة مخيفة، وهذا ما تؤكده العديد من الدراسات الاقتصادية التي تشير إلى أن الزيادة المحتملة لتطبيقات لذكاء الاصطناعي في الناتج المحلي الخام للاقتصاد العالمي ستبلغ 26 بالمائة بحلول سنة 2030[3]. وسيكون التأثير بكل تأكيد لا متكافئا، حيث ستستفيد دول بعينها من هذه الطفرة، وستعزّز هيمنتها على العالم.

إن هذه الأهمية الاقتصادية للذكاء الاصطناعي في حياة البشر، لن تنفصل عن توسعه في منافسة الإنسان في أكثر المجالات التي يظن أنها ملك حصري له. وهذا ما كان له حضور في نهاية هذه السنة الدراسية حيث كان “رفائيل اينتهوفن” أستاذ الفلسفة الفرنسي والصحفي المشهور في الأوساط الفرنسية، في تحدي بيداغوجي ومعرفي في حقل الفلسفة مع نظام الدردشة الشهير (تشات جي بي تي)[4] وهو نموذج لغوي ضخم تم تطويره ليستطيع توليد النصوص والتفاعل مع الأسئلة وبناء إجابات متناسقة وسياقية.

إن اختيار الفلسفة كمجال للمواجهة هي بحد ذاتها محاولة للتثبت من الخصوصية الإنسانية، فالفلسفة في نهاية المطاف، ليست مجرد عملية تذكر ومعالجة تحليلية للمعلومات فقط، بل هي بالأساس قدرة على طرح الأسئلة وعلى بناء حلول إبداعية من خلال اللغة والحس والخيال والعقل والأسطورة وغيرها من أجناس المعرفة و من شدة الخبرة والاختبار لظاهرة الحياة بكل تعقيدها.

يوم 14 جوان المنقضي، كان تلاميذ الباكالوريا في فرنسا على موعد مع أول امتحان في الدورة الرئيسية، ومثلما جرت العادة، كانت مادة الفلسفة هي أول المحطات في هذه الدورة. ضمن هذا السياق، كان رفائيل انتهوفن و’شات جي بي تي’ في وضعية استعداد للقيام بهذه المواجهة المباشرة لامتحان قدراتهما حول صياغة موضوع فلسفي.

كان موضوع الامتحان الذي تم اختياره لهما هو موضوع حول “هل أن السعادة شأن عقلي؟” وهو الموضوع الأول في ورقة الامتحان المقدمة لتلاميذ الباكالوريا في فرنسا.

أما عن مدة الامتحان فقد تم الاتفاق على منحهما المدة التي تمنح لجميع التلاميذ في امتحان الفلسفة، أي أربع ساعات. لكن ما إن بدأ الامتحان حتى أنهى (شات جي بي تي) عمله في دقيقة واحدة، في حين تواصل عمل رفائيل لمدة الساعة والربع.

بعد أن أنهى الطرفان امتحانهما، وتم تسليم الأوراق للجنة الإصلاح التي قامت بقراءة العملين وأسندت الأعداد المناسبة لكل عمل. هذا مع التأكيد على عدم معرفتها لهوية صاحب العمل عند القيام بعملية الإصلاح. أثناء المؤتمر الصحفي للتصريح بالنتيجة، قالت الفيلسوفة والمخرجة اليات ابيكاسيس: “من الجمل الأولى، يمكن أن ترصد هوية صاحب العمل وترصد الاختلاف الكبير بينهما.”[5] فيما صرح أستاذ الفلسفة والكاتب لاف فرنكل: “في العمل الذي قدمه (شات جي بي تي) لا توجد إشكالية، مع وجود جمل طويلة، ليس هناك محتوى متماسك ودقيق.”[6]

انتهت المقابلة الأولى في الفلسفة بين (رفائيل وتشات جي بي تي) بنصر ساحق للملكات البشرية ولذكائها الخاص ولفنها وتاريخها، وهذا أمر منتظر يؤكد من جديد أن للإنسان خصوصية هي فن صياغة السؤال، قبل حتى البحث عن إجابة. نال أستاذ الفلسفة العدد عشرين من عشرين و نال “تشات” احد عشر من عشرين.

قد تطرح النتيجة جملة من الإشكاليات يمكن تلخيصها في إشكاليتين فمن ناحية، يلعب الكائن البشري دور الخصم والحكم في هذه المبارزة، والإشكالية الثانية أن الطريقة التي يقدم بها “تشات” المعلومات مرتهنة بالأساس بقدرتنا على تقديم تفصيل دقيق للسؤال. إن هذه الإشكاليات التي نطرحها قد تنبهنا ناحية شكل من التواضع أمام هذا الانتصار.

صورة مقتطفة أثناء إعلان النتائج

تجدر الإشارة في هذا السياق إلى أن ‘رفائيل’ هو فيلسوف فرنسي متحصل على درجة الماجستير من جامعة السوربون في باريس، ومتخصص في الأخلاقيات والفلسفة السياسية.

إضافة لهذا التخصص الفلسفي الأكاديمي، فهو من المهتمين بتطوير أسلوب ديناميكي وعاطفي في تعليم ودراسة مسائل الفلسفة المعقدة. لذلك فهو من الذين يعملون على تبسيط الفلسفة وتقديمها بأسلوب يجعلها قابلة للفهم من جميع فئات الناس، وهذا ما جعل منه من مشاهير «الإعلام الثقافي » في فرنسا، وقد كانت له تجربة مع الإذاعة الثقافية الفرنسية وغيرها من الإذاعات الفرنسية التي تهتم بالشأن الثقافي ومن المنصات الإعلامية المكتوبة والمرئية. ورغم هذا الإبداع والتجديد الذي يقترحه من جهة الأسلوب. فإنه من ناحية المضمون الفكري و السياسي فإنه لا يخرج عن دائرة الفكر الليبرالي المهيمن في تلك الأوساط الإعلامية.

صورة رفائيل انتهوفن أثناء الامتحان

في كتابه ‘الذكاء الخارق. الأنماط، المخاطر،الإستراتيجيات’ يضع أستاذ الفلسفة ‘نيك بوستروم’ تميزًا بين طبيعة الذكاء البشري وبين الذكاء الاصطناعي. يتميز الذكاء البشري بكونه واعيًا بذاته وباستقلاليته الفكرية، فهو يقدر على التمييز بين تعامله مع المعطيات الخارجية والتجربة الخاصة للأفكار والمشاعر والانفعالات. 

الذكاء البشري يقوم بالأساس على قدرة أساسية هي القدرة على التكيف. هذه القدرة يشير إليها جون بياجيه[7] في دراسته لمفهوم الذكاء عند الأطفال، وهي تجعل من الفرد البشري قادرًا على التلاؤم و المواءمة بين عالمه الداخلي ومعارفه الخاصة وسلوكه، وبين معطيات البيئة الخارجية الاجتماعية والثقافية والسياسية والبيئية.

إضافة إلى هذا، فإن الذكاء البشري يتميز بقدرة على بناء ذكاء عاطفي قوامه القدرة على تفهم مشاعر الكائنات البشرية التي تقاسمه التجربة الوجودية والاجتماعية، وبذلك فهو يُنشئ عالمًا من العاطفة التي تتجاوز مجرد العمليات الحسابية المباشرة والدقيقة. هذا الشكل من الذكاء العاطفي يتأسس على التجارب التي يختبر فيها الفرد العالم من خلال حواسه وحدسه وتجاربه السابقة كفرد ينتمي لمجموعة.

في مقابل هذه الخصائص التي تميز الذكاء البشري، يقوم الذكاء الاصطناعي على ثلاث خصائص أساسية يجملها بوستروم فيما يلي :

في المقام الأول، القدرة الحسابية الفائقة وسرعة معالجة المعطيات الضخمة، فالذكاء الاصطناعي مخول له هذه الإمكانات بشكل يكاد يكون حصريا، وذلك نتيجة التعقيد الرياضي والشبكي الذي يشكل نظامه الخاص. ثانيا ، التعلم الآلي الذي يجعله يحلل الأنماط التي يتعامل معها وهذا التعلم المبني على تحليل المعطيات وبناء نماذج خاصة بها تحسن نظامه مع مرور الوقت وتداول المعطيات معه. ثالثا وأخيرا بناء استنتاجات دقيقة وموضوعية خالية من التحيزات العاطفية والأخلاقية التي قد تؤثر على الكائنات البشرية التي تعجز عن التجرد من انفعالاتها وأخلاقياتها.

إن هذين الصنفين المختلفين من الذكاء، يتداخلان في نقاط محددة، لكنهما يشتركان في نقطة خطيرة، هي قدرة ‘أساسية’ وهي التعلم المستمر.

صورة غلاف كتاب الفيلسوف ‘نيك بوستروم’

رغم هذه الهزيمة الأولى التي أظهرت تفوقًا نوعيا للإنسان في مواجهة الذكاء الاصطناعي، فن هذا النوع من الذكاء يمكن اعتباره مصدر قوة في نقاط أخرى، لعل أهمها على الإطلاق هي قدرته على تطوير أنماط التعلم. نجد أمثلة مختلفة على ذلك، نذكر منها نظام التعلم الآلي الذي تستخدمه منصات تعليمية شهيرة مثل (كورسيرا[8]) والذي يقدم برامج تعليم مناسبة لكل متعلم بناء على تحديد مستواه وفهم اهتماماته.

من جهة ثانية، تحلل بعض برامج الذكاء الاصطناعي المخصصة لتطوير آليات التعلم، أنماط التعلم وتقترح ألعابًا وأشكالا تعليمية تساهم في تسهيل دمج الأنماط المختلفة من أنماط التعلم الخاصة للأفراد. هذه الآليات التي تقترحها برامج الذكاء الاصطناعي تساهم في تطوير عمليات التعلم، وهي بذلك تساعد الأهداف الإستراتيجية التي يسعى لها رفائيل انتهوفن وغيره من أساتذة الفلسفة والمفكرين (من ضمنهم سعيد ناشيد صاحب كتاب التداوي بالفلسفة[9]) لتقديم الفلسفة بشكل يستسيغ الأفراد بمختلف مستوياتهم وأنماط تعلمهم وأعمارهم.

لا يستطيع الذكاء الاصطناعي تشكيل عواطف خاصة، إلى حد الآن، لكنه يقدر على تحليل التشكيلات الأساسية التي تؤسس لطريقة عمل الذهن البشري، وهو بذلك قادر على تقديم الحلول المناسبة بناء على سرعة معالجته وضخامة معطياته. هو إذن يشكّل إمكانية للمساعدة كما يمكن أن يؤسس لتحكم [خطير جدا] أيضًا. فالعواطف الإنسانية بحد ذاتها في نهاية المطاف  يمكن تحليلها منطقيا وفهم بنيتها ومنطقها الخاص. وبالتالي يمكن التحكم فيها وتوجيهها واختراق نسيجها وحميميتها وهذا ما يفعله الإشهار وغيره من آليات التأثير الاجتماعي و السياسي.

صورة غلاف الفيلم لخواكين فينكس

يقدم لنا فيلم (هي)[10] لخواكين فينيكس نبذة عن الإمكانات التي تجعل من عرش الذكاء العاطفي البشري في خطر حقيقي وذلك من خلال تسليط الضوء على قدرة الذكاء الاصطناعي على فهم العاطفة وتحليلها، كما يقدم لنا تاريخ الشطرنج لمحة عن القدرات التعليمة التي تميز الذكاء الآلي، فعندما انتصر غاري كاسباروف في المرة الأولى على الذكاء الآلي (ديب بلو)[11] ، كانت تلك اللحظة هي بداية انهيار عرش الإنسان، وبداية تعلم الآلة لتنتصر. فاليوم لا أحد يهزم القوة الخارقة (لستوكفيش)[12]، وهذا هو السر الخطير في هذا النوع من الذكاء الذي يبهرنا بقدرته على التطور والتعلم. فهل تشهد الفلسفة (بوصفها خاصية بشرية) نفس المصير بعد هذا النصر؟

صورة مقتطفة للقاء غاري كاسباروف و ديب بلو سنة 1997

[1] جون ديوي-الديمقراطية والتعلم صفحة17

[2] نيك بوستروم –الذكاء الخارق الانماط والمخاطر والاستراتيجيات

[3] احصائيات نشرتها شركة برايس ووترهاوس كوبرز ونشرتها العربي الجديد

[4] تعريف يقدمه لنا ‘تشات جي بي تي’ عند سؤاله عن طبيعته

[5] تصريح في الندوة الصحفية لإعلان النتائج تم بثها في قناة فرانس 5

[6] تصريح أثناء إعلان النتائج

[7]  عالم نفس سويسري مختص في دراسة النمو العقلي عند الأطفال وساهم في تطوير نظرية الذكاء المعرفي في القرن العشرين

[8] منصة عالمية تقدم الدروس بشكل إفتراضي

[9] مفكر وفيلسوف مغربي له مشروع فكري يقوم على جعل الفلسفة مفهومة لغير المختصين

[10] فيلم « Her » بطولة خوكين فينكس

[11] حاسوب تم تطويره خصيصا لمواجهة غاري كاسبروف بطل العالم في الشطرنج سنة 1989 وسنة 1997

[12] ذكاء اصطناعي مفتوح المصدر تم اصداره سنة 2004

اكثر قراءة