الثالثة صباحا،
مرّة أخرى. يرنّ منبّه الهاتف. عليّ الاستيقاظ للحاق بالشاحنة التي تنقل العاملات الفلاحيات إلى مشروع فلاحيّ يعود لرأس المال الوطنيّ. نظريا يدوم العمل ثماني ساعات بين الخامسة صباحا والواحدة ظهرا، لكن فعليا، يبدأ مع الثالثة حين تستيقظ العاملة الفلاحيّة وينتهي على الثانية ظهرا في أحسن الأحوال -حين لا يكون هناك عمل يستوجب وقتا إضافيا وحين تأتي شاحنات نقل العاملات في الموعد-.
المكان الذي ننتظر فيه الشاحنة مقفر ومظلم فجرا. هضبة مطلّة على أكوام من النفايات ترتفع وسطها لوحة كتب عليها “ممنوع وضع النفايات هنا”، يشي نوعها والخطّ الذي كتبت به والمشهد الذي تشرف عليه بانسحاب البلديّة من المكان. العاملة التي وجدناها تنتظر تحيي المصلين العائدين من المسجد. لكنّي، أنا، الدفاعية جدّا تجاه الغرباء، والرّجال خاصّة، أكتفي بالانتظار والصمت ومحاولة مقاومة الغثيان. وأذكّر نفسي بالجمل التي سأقولها، لأقنع المشغّل، في حال كان هناك فحص طبّي بأنّني في صحّة جيّدة وفي كامل قواي: عاملة مثالية بساعدين مفتولين وجسد ممشوق وقامة فارعة واستعداد فطريّ لدخول حلقة الاضطهاد دون أي مقاومة للاستغلال كُرمى لعيون “رأس المال الوطنيّ”!
الشاحنة أيضا مظلمة. تجلس المرأة التي تنتظر قبلي قرب الباب الخلفيّ مباشرة، لأسباب تتعلّق بالتهوئة. تحجز مكانا لأخرى. تنظر إلينا، نحن اللاتي بدأنا اليوم بعدوانيّة وفضول.
تبدأ الشاحنة جولتها الصباحيّة في أحياء مدينة مشوّهة أرست أسسها سياسات الدولة التي اجتث السكان بعنف من قراهم الجبلية . يبدأ بالتوازي الصّراع -صراعنا- من أجل البقاء: من أجل الصعود في الشاحنة، ثمّ من أجل مقعد يضمن حدّا أدنى من التهوئة، ثمّ من أجل مقعد في العموم، ثمّ من أجل مكان في القاع …
تغادر الشاحنة المدينة، تخبرنا العاملات القدامى أنّ الطريق طويل، ساعة من الزمن تقريبا. تهتزّ الشاحنة. أستحضر هراء مذيع ما على موجات إحدى الإذاعات عن ظروف نقل العاملات الفلاحيّات وضرورة أن نتعاطف معهنّ. أستحضر في الوقت ذاته، الخبر الذي رشّحته خوارزميات الفايسبوك، ضمن إشهارات وفيديوات إباحة رخيصة وصور من حفل راغب علامة، لأفتتح به يوما “وفاة عاملات فلاحيات بينهنّ فتاة ذات ستّة عشر ربيعا”. تتداعى أفكاري لا شعوريّا. تهرب من اهتزازت الشاحنة إلى الاحتمالات الأكثر سوءا. أعدّ سنواتي التي توقّفت عن عدّها لميل إلى اللامبالاة. لو كنت خبرا كم ربيعا سيكون لي حين يرثيني ذاك المذيع الرديء؟
مع طلوع الشمس يتسلل ضوء إلى الشاحنة. تنكشف وجوه النساء. يصبح عدّهنّ ممكنا. عشرون وجها نائما بعينين مفتوحتين وأجساد تعاني من تشوّهات تتراوح بين السمنة المفرطة وانحناءات الظهر والكتفين والبقع الداكنة على البشرة الخ.
تداعي الأفكار مرّة أخرى. أستحضر المحرمة الملوّنة، ذات الزهرات الجميلات التي ترتديها المذيعات كلّما تعلقت الحصّة بالنساء والعمل الفلاحيّ، والتي رأيتها أكثر من مرّة في المسيرات بشارع الحبيب بورڤيبة. أعيد النظر إلى رؤوس النساء ورأسي في الشاحنة. لا وجود لهذه المحرمة الجميلة. جلنّا نرتدي ثيابا داكنة، شتوية أحيانا رغم أن الفصل صيف لتوقّي الحرّ والشمس الحارقة والحشرات والغبار الذي يحمل موادّ قد تتسبب في حساسية جلدية ..
النساء/نحن هنا لسنا جميلات – بالمعايير المتفق عليها اجتماعيا-. ولا نرتدي محارم ملوّنة. وأيدينا ليست مزينة بالحناء. ولا نضع كحلا. ولا نضحك بطيبة. وتقاتل الواحدة منّا لتتجنّب أن تقف في شاحنة تهتزّ وتحني قامتها حتّى لا يرتطم رأسها بالسقف.
النساء/نحن هنا لا نرتدي محارم ملوّنة. كلّ تلك الكليشيهات التي تروّج في الإعلام ويتبناها جزء من صديقاتنا النسويات لا علاقة لها بالنساء هنا.
الإعلان الترويجي لفيلم “تحت الشجرة” الذي احتفت به مريم بالقاضي وعلى عنقها محرمة ملونة صغيرة، واللقطة الملحميّة التي يرفع فيها سكّان “رقْوج” المحارم الملوّنة في جنازة إحدى العاملات والصور الفوتوغرافية التي يلتقطها موهوبون أثناء مرورهم بالمزارع المتاخمة للعاصمة والطوابع البريدية لا تمتّ للنساء هنا ولواقعهنّ بصلة.
عودة إلى الاحتمالات الأشدّ سوءا كلّما ارتجت الشاحنة بعنف. يتسلل البرد إلى ظهري الفتيّ من المقعد القصديري الذي أجلس عليه منذ نصف ساعة وتزاحمني عليه تسعة من النساء، يتمنّين لو لم أكن موجودة ليتسع الحيّز الذي تحتله كلّ منهنّ قليلا، كما أتمنّى أن تكون كلّ واحدة منهنّ غير موجودة لأحتلّ حيّزا أكبر قليلا.
الخامسة صباحا.
نجتاز بوابة المزرعة. نتسابق للنزول من الشاحنة. يبدأ العمل. تخبرنا عاملات قدامى أننا محظوظات اليوم، لأنّنا لن نمشي على الأقدام مسافات طويلة لمكان العمل، ولأنّ مهمّة اليوم هي جمع الغلال.
ينطلق توزيعنا على السطور. تسجّل أسماؤنا. توزّع صناديق جمع الغلال. ويبدأ بالتوازي موّال المشرفين على العمل وهم في الأغلب حاملو شهائد عليا، بما في ذلك في الهندسة الفلاحيّة هاربون من شبح العطالة عن العمل. يستعجلنا هؤلاء لإنجاز أكثر ما يمكن من العمل قبل طلوع الشمس نظرا للحرارة الاستثنائية اليوم.
الأشجار متشابكة. يفصل الزيتونة عن الأخرى أربعة أمتار. وبينهما شجرة مثمرة أخرى. نصيبنا اليوم التفّاح. تأخذ كل عاملة منّا صندوقين وتنطلق وعاملة أخرى في سطر واحد. نجمع الغلال انطلاقا من حجم معيّن. وعلينا أن نجمع ما في الشجرة، ما تحتها، ما علق في الأغصان العالية، أن نتسلّق وأن ننحني لجمع ما على الأرض وأن نحمل الصناديق الملآى إلى أوّل السطر حيث يقع التجميع لتمرّ عاملات أخريات تملأنها في شاحنات توصلها إلى “البرّاكة”.
تتسارع الوتيرة، ننتقل من مكان إلى آخر. نتبع المشرفين الذين يصيحون بضرورة الإسراع أكثر. وأكثر. وأكثر .. إلى ما لا نهاية.
التاسعة صباحا
يقطع أحد المشرفين الوتيرة. وقت الفطور. نترك الصناديق. نتحرّك ببطء شديد. نبحث عن حقائبنا التي ألقيناها بعيدا لأنه يمنع الدخول إلى السطر بحقيبة، خوفا من سرقة المحصول. “مرحى يسرقون قوّة عملنا ويخافون أن نسرق ثمرة !”.
أسأل إن كان هناك ماء لنغسل أيدينا. لا يعقل أن يكون هذا المكان، الأخضر وسط الصحراء، خاليا من حنفيّة نغسل عندها أيدينا قبل أن نأكل حفظا للحدّ الأدنى من الكرامة البشرية. لكنّ كلّ شيء يعقل هنا، ما دام رأس المال الوطنيّ يتوسّع على حساب الفلاحين الصغار، والنساء، والمواطنين العطشى، فإنّ كلّ شيء يعقل.
لحسن الحظّ أنّ وضعي كطالبة أكسبني عادة سيئة. تبدّت جيّدة في هذه اللحظة. الإقلاع عن فطور الصباح.
تنتهي راحة الفطور
تشتدّ الحرارة. تصبح الشمس حارقة. تخترق أغصان الزيتون وتلفحنا. يخبرنا مشرف ما أنّ كلّ واحدة مطالبة بجمع صندوقين آخرين قبل أن ننتقل إلى “البرّاكة” حيث الحرارة أقلّ وطأة. يا للرحمة! شكرا لرأس المال الوطنيّ الطيّب!
ننتقل إلى “البرّاكة الموعودة”. نسير مسافة لا تقلّ عن كيلومتر لنبلغها. ملاحظة هامشية: الطّريق الذي نسير فيه صالح لمرور العربات. لكنّها لا تحملنا. تحمل المحصول فقط. أمّا نحن العاملات فإمكاننا السّير لأن لا ربح منّا غير ساعات العمل التي يسرقها رأس المال وهو يلقي لنا السبعة عشر دينارا. مرحى! إنّها أجرة يوميّة تتجاوز الأجر الأدنى الفلاحيّ بمليمات!
تلوّث سمعيّ إلى درجة الجنون. صناديق فارغة وصناديق ممتلئة ومشرفون يصيحون فينا أن نأخذ أماكننا ونصطفّ لتناول الصناديق التي يجب شحنها. تستمرّ العملية حوالي نصف الساعة مع كثير من الإهانات.
يتّخذ كلّ مكانه. تبدأ عمليّة الفرز والترصيف والشّحن. “خالتي مْلُوكَة”، المسنّة التي تعاني قصرا حادّا في النظر يمنعها من الفرز والترصيف، “تتحزّم” وتُسخّر نفسها لمهمّة الحمّال. تأتي بالصناديق غير المفروزة. تأخذ الصناديق التي فرغت العاملات الأخريات من ترصيفها. تفرغ حمولة عربة ما إذا ما جاءت محمّلة بكميّة أخرى من محصول اليوم.
كلّ منّا مطالبة بشحن إثني عشر صندوقا. ثمّ إذا انتهت منها تصبح مطالبة بالمساعدة في ما تبقّى. ثمّ إذا انتهى الجميع ممّا عليه تبتدع المشرفة أيّ مهمّة لتستغّلنا خلال الساعة أو نصف الساعة المتبقيّة. هكذا هو رأس المال، يأبى ان يتخلّى لنا حتّى عن دقائق من ساعاتنا التي يسرقها مسبقا.
أثناء الشحن أحتاج لأتبوّل. أخرج لأني رأيت لافتة كتب عليها “مرحاض”. كان المرحاض معطّلا، بل خارج الخدمة تماما، بدون ماء او أدنى مقومات النّظافة. في الأثناء شاهدتني مشرفة وهي بصدد القيام بمكالمة مع مشرف آخر (لشساعة الأرض التي احتلّها المستثمر يحتاج العاملون فيها إلى التواصل هاتفيا). سألتها عمّا إذا كان هناك مرحاض آخر فطلبت مني العودة إلى العمل ريثما تنهي مكالمتها. بعد دقائق عادت تخبرني أن لا وجود لمرحاض آخر وأنّ أمامي خيارين: إمّا استعماله في الحالة التي هو عليها وإمّا الابتعاد عن المكان قليلا وقضاء حاجتي في البرية كما يتفق لي.
هذا ليس ظرفا عارضا، أغلب المشاريع الفلاحية بجهة ڤابس وفق ما سمعته من عاملات تنقّلن بينهم لسنوات تفتقر إلى دورات مياه أو حنفيات للاغتسال. وجلّ من يعملن ويعملون هنا يقضي حاجته في البريّة دون ماء ودون أدنى احترام لحرمته الجسدية كبشر ويتناول وجبة إفطاره دون غسل يديه ويتناول الغلال أثناء جمعها وشحنها دون غسلها او غسل يديه ومع “قليل” من الإهانة والتّوبيخ لأنّه “داه في كرشه”.
يجب ألاّ نخجل من توصيف الظروف التي نعيشها -كبشر في هذه الرّقعة الجغرافية الخاضعة لهيمنة رؤوس أموال لا علاقة لهم بالفلاحة والأرض وبالكاد يزورونها لتفقّد مدى نجاعة المشرفين في اضطهاد من تحتهم في هرم الاستغلال او لتوقيع عقود شراء الأراضي المحيطة بهم بعد أن تخلّى عنها صغار الفلاحين نتيجة عدم قدرتهم على مزاحمة “الحيتان الكبيرة”-، يجب ألاّ نخجل من توصيف ظروفنا بالمتخلّفة وما قبل الرأسماليّة أو من توصيف مسلكيّنا كعاملات وعاملين هنا بأنّها همجيّة وتنمّ عن “قابليّة للاستغلال” وانتهازيّة. لكنّنا إذ نقول هذا لنكسر الصورة الرّومنسية العالقة بالأذهان عن العمل الفلاحيّ يجب أن نقرّ بأنّ انحطاطنا نتيجة مباشرة لسياسات رأس المال. لسنا كعاملات فلاحيّات همجيّات وانتهازيات ومستعدّات للعمل لثمان ساعات في مكان يفتقر لدورات مياه وللوشاية ببعضنا للمشرفين وأرباب العمل بالفطرة بل إنّ راس المال هو من أعادنا قرونا إلى الوراء (نمط العيش) وخلق/شجّع نزعات الفردانيّة ومطامع الارتقاء على جثث من يتقاسمون معنا العناء ذاته.
تنتهي عمليّة الشحن
تنتهي المهمّة الوهميّة التي انشأتها المشرفة لكي لا تفرّط لنا في الساعة الأخيرة: رصف صناديق فارغة ستتبعثر في الغد قبل انطلاق العمل. قد يبعثرها مضطَهدون آخرون لكي لا يتخلّى لهم رأس المال العادل عن دقائق من ساعات عملهم. تقرّر المشرفة ان نمشي على الأقدام حتّى نبلغ النقطة التي ستقلّنا منها الشاحنة. أتساءل عمّا إذا كانت شاحنات نقل العمّال لا تصل إلى هنا مثل بقية العربات. تخبرني النساء أنها تصل لكنّ المسؤولين يقرّرون ان يتنقّل لها العمّال حين ينتهي العمل قبل الوقت بقليل. يا للروعة! يا لعظمة رأس المال الوطنيّ “الحاذق”!
تقلّنا الحافلة إلى أحيائنا في ظروف أسوء من الظروف التي جئنا فيها صباحا. يسخن الحديد تحت الشمس الحارقة ونتعرّق ويصبح الجميع مستنفرا ومستعدا للعراك لسبب تافه. تجرح عاملة يدها ويسيل منها الدم فأسكب على جرحها ماء لتغسله. أفكّر في أنّ هذا الدّم قريب منّا لدرجة لا تصدّق. في أنّه قد يخضّبنا بمجرّد صدور أبسط هفوة عن السائق. حينها سنصبح حكايات. ستكتب عنّا مقالات ونصوص كثيرة. روبورتاجات وأفلام وثائقية ستصوّر فتاة ذات ستة عشر ربيعا، بملامح جميلة (سمرة مستحبّة وشعر حنطيّ كثيف وعينان كبيرتان) ومحرمة مورّدة ساحرة، وعجوزا بأوشام ولباس ملوّن بصدد العمل بالحقول.
تهتزّ الشاحنة بعنف
تمسكني المرأة التي بجانبي وتقبض على ساعدي بقوّة وتخبرني أن أتمسّك بها حتى لا أسقط لأني أجلس قرب الباب مباشرة. تهتزّ الشاحنة بعنف أكثر. ترتفع أصوات بالدعاء. أتمسّك بالمرأة بجانبي. أغرز جسدي في الهيكل القصديري كأنّما أريده ان يلتصق به. ألقي نظرة على الطريق. “لماذا انحرفنا نحو الوادي؟” أصرخ. يرتطم رأسي بحديد. لم أعرف إن كان سقف العربة أو بابها الخلفيّ. يرتطم ظهري بحجارة القاع وتربته القاسية. صورة جسدي وهو يسقط مستقيما على القاع حين أردت الوقوف على يديّ في طفولتي تتراءى لي. ثمّ تغيب. ويغيب الضوء. أفتح عينيّ بصعوبة. أحرّك يدي فتخزني. أتململ فلا يستجيب جذعي. يظلّ باردا. جامدا. صورة جدّي وهو يحاول تحريك يده المشلولة فتظلّ كما هي تنتصب أمامي. مرعبة. وجه أمّي. البحر. أخي ومريم صديقة طفولتنا والطابة. وجه أمّي باكيا. يد جدّي. جسدي يهوي مستقيما على الأرض حين حاولت أن أقف على يديّ. يغيب وجه أمّي مجدّدا. يغيب الضوء.
أعيد فتح عينيّ بصعوبة
من وراء هالة حمراء أرى السّماء. تلفح الشّمس جروحي. أغلق عينيّ من الألم. أفتحهما. الثالثة صباحا. الشّاحنة. المشرفة توجّه المصباح إلى وجوهنا لتتفقّد الحضور. إمرأة تضرب الحديد بكفّها وتصيح للسائق “اكتملنا، انطلق”. العراك من أجل مقعد. ثمّ من أجل مكان في القاع. ثمّ من أجل توسيع الحيّز الضيّق الذي نجلس فيه قليلا على حساب بعضنا. يغيب الضوء. يعود. الخامسة صباحا والعراك من أجل النزول. خلع الحقائب وإلقاؤها بعيدا حتى لا نسرق الثّمار. العطش. معدتي تؤلمني لأني أكلت تفّاحة دون غسيل. الشمس تحرق وجهي حين أرفعه وأتطاول لألتقط الثّمار في الأعلى. تغيب الشّمس. الرابعة صباحا. النعاس الشديد والصداع من كثرة النوم. تسمّري مكاني حتّى لا تدفعني عاملة أقوى منّي لتجلس بـ”أريحيّة”. ظلام الشاحنة وفضولي لأكتشف وجوه النساء فيها. تطلع الشمس. التشوّهات في أجسادهنّ ووجوهنّ. ثيابنا الداكنة، القبيحة. الأوساخ التي تعلق بها أثناء العمل. رائحة فضلات الحيوانات الّتي تُسمّد بها الأرض. يؤلمني رأسي فأمدّ يدي لأعرف إن كان به جرح. راحتي ترتفع مليئة بالدّم. تخترقها أشعّة الشّمس. تخترق عينيّ. أغمضهما. الحاجة إلى التبوّل. المرحاض الخارج عن الخدمة. عودتي إلى “البرّاكة” وشعوري بالكره تجاه إمرأة تتناول الغلال دون غسيل. خالتي ملوكة تتمزّق بين الصّناديق ولا تلحق. تحرق الشمس رأسي. مشيي في صفّ يتكوّن مما يزيد عن مائة إمرأة لنصف ساعة تحت الشّمس لنصل إلى الشاحنة. العراك على المقاعد. السباب. العرق. المرأة التي جرحت يدها. المرأة التي أمسكت ساعدي حتّى لا أسقط. يعود وجه أمّي. يغيب. يغيب الضّوء ..
أستيقظ
ينتهي يومي. تنتهي تجربة عملي ذات اليوم الواحد. أفكّر في من لم تمنحه الامتيازات رفاهية التخلّي عن عمله مثلي. في من ستستقلّ الشاحنة في الفجر الموالي لتعيش يوما مشابها للذي عشته. ربّما بفظاعات أكثر. أفكّر في منية التي ستنتزع السبعة عشر دينارا لتضعها في يد زوجها. في ملوكة التي ستنتزعها لتنفق على ابن عاطل عن العمل. في ناجية التي ستخبّؤها في محرمة بخزانتها مؤمنة بأنّ “فليّس مع فليّس يولوا كديّس”، “كديّس” تأمل ان يحميها من موت قاس لأنها تعرف أنّ زوجها لن يتكفّل بمصاريف علاجها إن خانتها صحّتها. في جميلة التي تعمل لتجمع تكاليف الزواج حتّى لا يقال عنها أنّها عانس وعاطلة و”فرس مسيّبة”. في بشرى التي أقنعتها برامج الجمال وستوريات المؤثرات بأنها يجب أن تستخدم منتجا باهضا لتبييض بشرتها، لإزالة الحبوب والدّسة والهالات، لشدّ الترهّلات .. لتنال إعجاب رجل ما.
أفكّر في كثيرات غيرهنّ.
في أخريات كنّا لنكونهنّ في فرضيّة أخرى.
في خالتي ملوكة التي كانت لتكون حرّة من هاجس جمع “كدّيس” تؤمّن به على نفسها قبل أن تباغتها هشاشة في العظام، لأنّها تعرف أنّ المجتمع سيتكفّل بها، أنّ الصحّة للجميع، لا لمن يملكون “كديّسات فقط”.
في منية التي لن تعمل لتضع السبعة عشر دينارا في يد أيّ كان، لن تعمل ثماني ساعات مقابل أجر ساعتين، لن تعمل مقابل أجر من الأساس، بل ستعمل حسب قدرتها وهي مطمئنة إلى أنّها ستلقى حسب حاجتها.
أفكّر في بشرى التي لن ترى نفسها تحت تأثير العنف القسريّ للصورة، في وجوه المؤثرات التي لا تقول شيئا غير العرض. الّتي ستكفّ عن محاولة تفتيح بشرتها وستسمح لقامتها الفارعة ووجهها الحنطيّ ذي الملامح الخجولة بمعانقة الشّمس. التي لن تبحث عن إعجاب رجل ما بل عن الحبّ، أينما كان.
أفكّر في نفسي في فرضيّة أخرى. في الأشياء التي كنت لأفعلها بشغف. في التّحرّر من الضّرورة.
من حقّنا أن نتخيّل. حتّى ونحن نرى الشّمس من رواء هالة مالدّم ولا نشعر بأجسادنا من الألم. من حقّنا أن نرغب في نفي واقعنا المحبط والباعث على اليأس، أن نرغب في الشيوعيّة.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.