“إذ عرفت عدوّك وعرفت نفسك، فالنصر لن يصبح محلّ شك. إذا عرفت طبيعة سماء وطبيعة أرض المعركة، فأنت تجعل انتصارك كاملاً.”
سون أتزو، فنّ الحرب

مثلما كانت الرؤوس النووية مجهزّة للإطلاق ضمن سياق الحرب الباردة بين السوفييت والأمريكان وصراعهما على النفوذ والهيمنة على العالم، كانت البيادق و قطع الشطرنج مجهّزة لتشهد لحظة فارقة في سياق هذه الحرب. لكن هذه اللحظة الفارقة كانت تتشكل فوق مربّعات بيضاء وسوداء وفوق أرض وتحت سماء مختلفتين.
لكن ورغم هذا الاختلاف بين الحرب واللعب، إلّا أنّهما شكّلا في لحظة من تاريخ القرن العشرين وجهان لعملة واحدة، وهي عملة الصراع على حكم هذا العالم. وهذا ما سنحاول تقديمه في هذا المقال بالعودة لنهائي بطولة العالم للشطرنج الذي دار سنة 1972 بين ‘سباسكي السوفياتي’ و’فيشر الأمريكي’.
سياق المباراة، أو في مجريات الحرب الباردة على الرقعة
يعود الاستعمال الأول للتركيب اللفظي “الحرب الباردة” لمقال كان قد كتبه الكاتب الانجليزي جورج آرويل تحت عنوان ‘أنت والقنبلة الذرية’ وقد تناول المقال بالأساس التهديد الذي سيعيشه العالم تحت وطأة القلق من استعمال ‘القنابل الذرية’، هذه النوعية من القنابل التي كان العالم قد شاهد جزءًا من أهوالها المرعبة في الفصل الأخير من الحرب العالمية الثانية، عندما ألقت الولايات المتحدة الأمريكية قنبلتين نوويتين على مدينتين يابانيتين هما هيروشيما وناغازاكي.
هذا الاستعمال الذي صاغه آرويل كان يعكس الحالة الذهنية والنفسية والسياسية والعسكرية التي حكمت بنية العالم الجديد الذي كان بصدد التشكّل على إثر نهاية الحرب.
في كتابه ‘الحرب الباردة’، يشير روبرت ماكمان إلى طبيعة العلاقة التي كانت تجمع الولايات المتحدة بالاتحاد السوفييتي فيكتب:
“كان زواج المصلحة الذي جرى إبان الحرب على صورة تحالف بين كبرى القوى الرأسمالية والمناصر الأكبر للعمال مشوبًا بالتوتر وفقدان الثقة والريبة. وبخلاف الرغبة المشتركة في هزيمة ألمانيا النازية لم يكن هناك ما يعزز هذه الشراكة المولودة بدافع الضرورة”

سرعان ما انفرط هذا التقاطع التكتيكي مع نهاية الحرب وظهرت العداوة بكل الأشكال الممكنة وعلى جميع المستويات.ظهرت تسميات محدّدة للجغرافيا السياسية ولصراع النفوذ بين القوتين. فمن جهة نجد المعسكر الشرقي بقيادة السوفييت، والذي يتبنى الماركسية كمرجعية سياسية واقتصادية، ومن جهة أخرى الكتلة الغربية التي تتبنى الرأسمالية كمرجعية بقيادة الأمريكان. وبين هاتين القوتين دول تمثل جغرافيا للصراع، المعلَن منه والخفي.
كانت هذه الحرب الباردة تدار في العلن وفي الخفاء لكنها، ورغم شدتها وعالميتها جغرافيا، لم تتحول إلى صراع نووي مباشر بين القوتين رغم بعض المحطات الخطيرة التي كادت تؤدي لمثل هذه المواجهات النووية، ولعل أبرزها على الإطلاق أزمة خليج الخنازير (كوبا في بداية الستينيات). هناك حيث كان العالم على بعد لحظات من اندلاع الحرب النووية.
طال الصراع بين القوتين جميع الميادين، من صراع العسكرة وسباق التسلح إلى صراع حول اكتشاف الفضاء، وصولا إل صراع الجواسيس والمخابرات، نهاية بصراع أيضا حول الدعاية الثقافية والرياضية. ونجد ضمن هذا الإطار أنّ السوفييت أسّسوا لتفوقهم في لعبة الشطرنج على أنه دليل على تفوقهم العقلي والذهني على الأمريكان في وضع الخطط وفي معدّلات الذكاء. ويعود ذلك إلى تاريخهم في هذه اللعبة وسيطرتهم بالطول والعرض على بطولات العالم (13 بطولة إلى حدود تلك اللحظة)، وهذا ما جعل من لعبة الشطرنج تكون ضمن الدعاية الثقافية التي يستعملها السوفييت في تسويق نموذجهم السياسي. الّا أنّ هذه الدعاية كانت محدودة ومقتصرة على أوساط ضيقة نظرا لطبيعة اللعبة نفسها والتي لا تُعَدُّ رياضة جماهيرية.
مباراة القرن، أو في صناعة الأسطورة
يرن جرس الهاتف في غرفة إقامة اللاعب الأمريكي بوبي فيشر، يرفع السماعة، فيجيب هنري كسنجر، مستشار الأمن القومي الأمريكي في ذلك الوقت، قائلا له: “نريدك أن تذهب إلى أيسلندا لتهزم الاتحاد السوفييتي”.
في تلك اللحظة، أدرك فيشر الدور “الأسطوري” الذي سيقوم به في حال هزيمته لسباسكي، وهو الذي كان مترددا وغير راغب في اللعب.
يُوثّق فيلم ’تضحية بيدق‘ (2015) هذه التفاصيل في إطار الترويج للحظة مثّلت جزءًا مهمًا في سياق الحرب الباردة، والقوة الأمريكية الناعمة في ذلك الوقت.. حيث يسافر فيشر إلى أيسلندا وهو حاملا “حلم أمريكا”، المتمثل في رغبة عميقة بالانتصار على السوفييت في الرياضة التي يتقنونها ويسيطرون عليها بالطول والعرض والتي كانت تمثل، حسب بطل العالم السوفييتي لخمس مرات، ميخائيل بوتفينيك:
“مدرسة العقل الكبيرة، حيث القدرة على التفكير الاستراتيجي واتخاذ القرارات الذكية”
لقد فهم الأمريكان أهمية الرهان على “صناعة أسطورة فيشر” وتحويل نهائي بطولة العالم 1972 إلى “نهائي القرن” . فهناك وفي أرض رقعة الشطرنج بالذات، كانت هزيمة السوفييت هزيمة معنوية قاتلة، وهم الذين يفخرون بتاريخهم في هذه اللعبة التي تعكس “تفوقهم” في التخطيط والإستراتيجيا.

بعد هزيمته لجولتين متتاليتين، طلب فيشر من الهيئة المنظمة اللعب في غرفة صغيرة، دون جمهور ودون كاميرات. وافق سباسكي، رغم كونه كان قادرا على الرفض، وأغضب بذلك السوفييت ولكن رغم هذه الوقائع التاريخية التي تثبت التواضع والروح الرياضية التي اتسم بها هذا اللاعب، فإن الأمريكان لم يتركوا، إثر نهاية البطولة بفوز “أسطورتهم” (والذي كان أول أمريكي يحرز لقب البطولة في ذلك الوقت)، حيزًا إلا وحاولوا فيه تقديم سباسكي، والسوفييت من ورائه، في شكل مجموعة من الجواسيس والمهووسين بالنصر بكل الطرق. وهذا ما تجسد بشكل فاضح في طريقة تقديم فيلم ‘تضحية بيدق’ للسوفييت رغم أنه أُنتج بعد قرابة نصف قرن من ذلك النهائي. وهذا ما تظهره أيضا بعض المقابلات التلفزيونية التي أجريت مع فيشر إثر إحرازه اللقب في ذلك الوقت.
رغم النزعة العدوانية المعروفة عن فيشر تجاه السوفييت، إلا أنّه يقرّ بشكل صريح في لقاء تلفازي أنه “معجب” بشخصية سباسكي. ولقد كان هذا التصريح في صميم شخصية فيشر الغريبة والمزاجية. والذي من المفارقة أن ينهي حياته لاجئا بعد أن تم طرده من أمريكا التي كانت تفخر به عندما كان جزءًا من حربها على السوفييت. هذا التنكر لفيشر له أسباب عدة: من أهمّها مواقفه المعادية للكيان الصهيونيولأمريكا وسياساتها الإمبريالية في العالم، خصوصًا بعد نهاية الحرب الباردة.
نهاية حياة “الأسطورة وبقايا الحرب”
تحوّل فيشر إلى منبوذ بعد أن أنهى دوره ضمن سياق الحرب الباردة. إذ بقي هاربًا من بلد إلى آخر، محاولاً تجنب عقوبة السجن التي كانت تلاحقه بسبب مشاركته في اللعب في يوغسلافيا. تحوّلت هذه المفارقة المضحكة إلى تراجيديا عندما حُرم من حضور جنازة والدته وهي كلّ عائلته والشخص الأقرب لقلبه بعد وفاة والده عندما كان طفلا.
سُجن إثر ذلك سنة 2004 في اليابان. هناك حيث ازدادت حالته الصحية تعكرًا، وهو الذي كان يعاني من أعراض جنون الارتياب. ولعلّ هذا ما كان يعكس بشكل ما “شخصية فيشر” الذي وُضع في موضع الأسطورة التي ستهزم الاتحاد السوفييتي، كما أخبره هنري كسنجر، لكنه أيضا فيشر المنبوذ . فالأسطورة قد تؤذي نفسها عندما ينتهي دورها، وبالأخص عندما تقابَل بالحقيقة المرعبة بكونها مجرّد أداة فحسب في مصفوفة القوة الناعمة.
لم يكن فيشر ليواجه هذا القدَر لو كان مهادنًا لسياسة بلاده الاستعمارية أو لو كان يهوديا “صهيونيا”، وهو اليهودي (النشأة) الذي كان يكنُّ العداء لإسرائيل ولجرائمها في حق أطفال فلسطين.
من الحكمة أن ينهي فيشر ما تبقى له من عمر في المكان الوحيد الذي شهد لحظات مجده وعنفوانه، هناك في أيسلندا. توفي فيشر في العاشر من يناير 2008 بعد أن منحته تلك البلاد جنسيّتها وهو الذي تنكرت له بلاده بعد أن صنع مجدها وجزءًا كبيرًا من نصرها.

يمثّل نهائي 1972 درسًا أمريكيا عن أسباب انتصارها في الحرب. ففي الوقت الذي أدركت فيه أمريكا أهمية هزيمة العدو في أرضه وداخل ملعبه، كان السوفييت غير قادرين على الدفاع عن أنفسهم، إذ كانوا ينتظرون موعد هزيمتهم في أرض لطالما كانت ملكهم طولا وعرضا. إذ أنّ القوة الناعمة تصنَع من “التفاصيل الصغيرة” و”الإستثناء” حكايات وتنسج حولها الأساطير.