«الفيراج» تنبيه دائم بقدوم العاصفة

09/06/2024
«الفيراج» تنبيه دائم بقدوم العاصفة

يوم السبت، ارتديت قميص الفريق وسروالا قصيرا، وحذاءً رياضيا. حزمت بعض الأمتعة في محفظتي التي حملتها مسرعا على ظهري، في اتجاه محطة القطار بصفاقس. حين وصلت، كانت المحطة تعج بالمسافرين والضوضاء. انقسم الناس إلى قسمين ، قسم أول يرتدي قمصانا رياضية مخططة تشبه التي أرتدي، وقسم ثان يكتسي الزيّ الأسود ويقف متأهبا حاملا العِصِيّ .تأخّر خروجُ قطار الثانية والنصف صباحا ساعَةً لدواع “أمنية” ونتيجة لبعض المناوشات والضرب الخفيف المتمثّلة في  “كف ومشطة”.لم أجد كرسيا فارغا، ولا مكانا للوقوف بين العربات. 

صفارات وضرب على أبواب القطار، أهازيج ولكنة جنوبية طاغية. فتيان من جربة وجرجيس وڨابس والحامة ومدنين وتطاوين يشقون البلاد طولا وعرضا من أجل التنقل إلى العاصمة وتشجيع الفريق من المدرجات. أغلب هؤلاء، لم تتجاوز أعمارهم ال18 عاما _ السنّ الأدنى للدخول إلى ملاعبنا_ يملؤون القطار بأصواتهم وبرائحة السجائر العادية و”الزطلة”.

بعضٌ من الأغاني كانت تشجيعا للفريق، وبعضٌ لشتم البوليس، والبعض الآخر لشتم الفريق المنافس ولجهة كاملة من البلاد، امتنعت عن ترديدها لما  تحمله هذه الأغاني من شحنة جهوية مقيتة، وتساءلت “هل ستصمد رقابتي الذاتية أمام تخميرة الـ30ألف مشجع بالمدارج؟ “. ويعود الكل ويغني مبشّرا الخصوم والبوليس 

“أوووه.. أووووه … زادمين بأعلامك هانا جينا” .

كنتُ هناك، في الملعب يومها، في منطقة “الفيراج” وراء شباك المرمى. لم أسمع صديقا يحدثني عن الوقائع ولم تُنقل لي الرواية شفويا مزخرفة ومزينة وملمعة. كنتُ هناك، أسمع وأرى وأختنق بالغاز المسيل للدموع أيضا، حين صعد البوليس إلى المدارج ليطلق قنابله بشكل همجي وعشوائي قبل 3 دقائق فقط من نهاية المباراة. 

كان ذلك نتيجة “استفزازات” الجمهور، والحق يُقال، أو جزء من الجمهور، أو لمُشجّعيْن أو ثلاثة منهم نزلوا أرضية الميدان. استفزاز شبيه باستفزاز التلميذ لأستاذه في القسم، حين يقوم بالتشويش، فيطلق الأستاذ عصاه بشكل هيستيري ومخيف ليشْمل بعدها العقاب القسم كله، أو ربّما كان هذا الاستفزاز شبيها باستفزاز الصغير لمن يكبرونه سِنّا وذلك بإخراج لسانه ضاحكا ، فيُعنّف حتى تُطحن عظامه جراء فعلته . لم أبلغ وسط المدينة بعد، حين ردّد جهاز الراديو “أحداث عنف وشغب بملعب رادس”.

الرواية الرسمية :تـحالف الماتراك والميكروفون

حين سألت صديقي، الذي لم يعر اهتمامه يوما لكرة القدم، عن رأيه في “الفيراج” أجابني باختصار “برشا فوضى”، وحين كررت السؤال على مسامع أمي أجابت هي الأخرى ” ما فهمتش علاش يعملوا في الشغب”. وحين وسّعت نطاق  استبياني غير العلمي تلقيت إجابات مماثلة ومتقاربة. أدركت كون الرواية الرسمية وحدها تنتشر كالنار في الهشيم. 

بلاغات متتالية من وزارة الداخلية تُثبت “بالدليل القاطع” أحداث الشغب وتنفي أيّة مسؤولية عن تعرض الجماهير للعنف أو للإصابات أو للإعتداء.

مواجهات بين جماهير النادي الافريقي وقوات الشرطة خلال مباراة الدربي

تصريحات متواترة للناطق باسم الوزارة، تحدثنا عن نضج الأمنيين في التعامل مع جماهير كرة القدم وعن قدرتهم العجيبة على ضبط النفس، وتُقر بالتدخل السريع لإنقاذ الأرواح البشرية بعد صراع داخلي-داخلي لا شأن للبوليس فيه. 

ويتسابق محللو الرياضة الأذكياء، الغيورون على السلم المجتمعي وعلى مصلحة البلاد وصورتها، ليذكروننا بالجماهير الأوربية المتحضرة الراقية، وليُدينوا همجيّتنا المحلية. ذلك ما تقوم به قوات القمع الطبقي ومؤسسات الهيمنة الناعمة، بشكل متناسق وممنهج للغاية، تعبيرا عن المصالح المشتركة، وحفاظا على الامتيازات المكتسبة. الدولة ليست مُحايدة، ومؤسسات الدولة كذلك. 

ماذا نجد في المقابل؟  رواية أخرى منحازة كليا لجماهير كرة القدم وللألتراس تحديدا انحيازا حسّيا غير علمي لا يعدّل الكفة ولا يدحض الرواية الرسمية.  نتعامل _ نحن المنحازون للجماهير عموما_ مع هذه الفئة بشكل مغالٍ في الرومانسية، حيث نراها الحلقة الأضعف والأكثر قدرة على الصدام والكفاحية في الآن ذاته. إن مرد هذه النزعة مفهوم، نسبيا ، يتمثل في عجزنا على القيام بالمثل لوحدنا، وعلى التواجد بينهم وعلى محاولة فهم ما يبتغون وعلى توجيه حركتهم، مع تراجع الزخم الثوري والحراك الاجتماعي الاحتجاجي خاصة. 

ولكن لا بدّ أن لا ننسى أو نتناسى كون هذه الكتلة البشرية لا تعيش خارج ما نعيش، من تحولات اقتصادية واجتماعية وثقافية وسياسية، تنخرها بعض الأمراض التي تنخرنا، تترنح بين الحسّي والواعي حسب السياق، تتراقص بين النعرات الضيقة، وبين تبنّي قضايا الوطن والأمة. تحكمها قوانين حركة الصراع كما تحكمنا جميعا. 

 المدارج: مربع الحرية وبناء السرديات 

الانتماء إلى الألتراس “هو إعلان بالانتماء إلى إطار احتضان اجتماعي من خارج سياقات العمل الحزبي سواء أ كان تقليديا أو حديثا، ومن خارج سياقات العمل الجمعياتي والمدني ومن خارج سياقات العمل الخيري بل من خارج سياقات الحركات الاجتماعية الاحتجاجية المطلبية التي تتكاثر مظاهر تناميها على مرّ السنين” (1)

إنه ” إعلان هوياتي شبابي” على حد تعبير منير سعيداني. 

إن هذا الرفض السياقي الذي تعلنه مجموعات الألتراس، يُلحقُ بِمحاولة بناء سرديّة أو رواية ما. رواية جامعة أحيانا وخاصة أحيانا أخرى. تعتبر الحركة الطلابية نفسها قادحا لثورة ديسمبر – جانفي 2011، ويعتبر مناضلو الحوض المنجمي أحداث الرديف 2008 شرارة أولى للانتفاض وكسر حاجز الخوف.

وكذلك المنتسبون إلى مجموعات الألتراس، حيث يرون أنفسهم الحلقة الأقوى في سيرورة الحراك الثوري، خاصة منذ سنوات 2007-2008.وإن كانت كل هذه الروايات غير دقيقة من الناحية العلمية، كونها لا تأخذ بترابط الأمور، فإن إنكار المراكمة التي أحدثتها مجموعات الألتراس داخل المدارج، وحتى خارجها، سيكون إجحافا في حقها. 

في 2008، عندما كان النظام يتنفس لوحده، في حين تختنق جماهير البلاد، ويُزج بالمعارضين في أقبية الداخلية، صارت المناوشات بين جماهير الكرة وقوات البوليس مشهدا متكررا في الأحياء الشعبية (مونفلوري، باب سويقة، بعض أحياء سوسة وغيرها من الجهات).

في 8 أفريل 2010، كانت جماهير الترجي تُلاحق أصحاب الأزياء السوداء، في مباراة حمام الأنف والترجي، بعد قمع البوليس للجماهير. وكانت دلالات الانتفاض تتوالى. تواصلت حالة التوتر بين مجموعات الألتراس و”الحاكم” ( قوات البوليس)  حتى بعد “الثورة”، في مباراة الإفريقي وأساك ميموزا الإيفواري في 2011 ضمن فعاليات الكونفدرالية الافريقية، وفي مباراة الترجي والمولدية، وفي عدة مباريات أخرى. ويمكن القول إنها لم تتوقف حد اللحظة، تخفت وتطفو على السطح، حسب السياقات السياسية وحسب كثافة القمع البوليسي ووتيرته. 

أحداث شغب بين فيراج الترجي الرياضي وقوات الشرطة يوم 8 أفريل 2010

” لم تغير الثورة كثيرا من طبيعة العلاقة المرتبكة والصدامية بين السيستام ومجموعات الألتراس. ظلت جماهير الفيراج في حالة تنافر مع الآخر. هذا الآخر الذي يتلخص في السيستام بكل مكوناته” (2) يبدو ذلك منطقيا للغاية، فجل أعضاء المجموعات ينتمون إلى الهوامش، إلى أحزمة الفقر، وإلى المقصيين من عجلة الإنتاج الاقتصادية. 

لم يكن الأمر مرتبطا فقط بالحرية، في معناها الضيق المتعلق بالتعبير والقدرة على إدخال ال”فلام” و”المساجات” و”الدخلات”. والأمر يتجاوز أيضا إهانات البوليس في مداخل الملاعب والعنف المجاني المسلط عليهم. 

فهؤلاء لم يسع النظام حتى بعد 2011 إلى تحريرهم اقتصاديا وإخراجهم من حالة العطالة والبؤس، ولم تنجح الأجسام الوسيطة،  أحزابا ونقابات وجمعيات ومنظمات، في إقناعهم بالتنظم من أجل بديل اقتصادي آخر ممكن. فظلوا يرفضون الجميع، والنظام أساسا، ممثلا في جهاز البوليس، جهاز المواجهة الأول، وخط التماس الدائم.  وظلت المدارج بالنسبة إليهم، قلعة أخيرة للنضال ولبناء سردية الحرية. 

تعلم عوم..  حاصر حصارك 

السبت 31 مارس 2018، وبعد مباراة جمعت الافريقي بناد تونسي آخر، ضمن فعاليات البطولة، اندلعت مواجهة بين مجموعات الألتراس وقوات البوليس، مواجهة طالت أرجاء ملعب رادس. وملاحقات ومطاردات انتهت بزج عمر العبيدي، مناصر النادي الإفريقي وعضو مجموعة “الفاندالز” وصاحب ال18 عاما، في المياه الجارفة لوادي مليان الذي يبعد تقريبا 3 كم عن الملعب. 

Ultras Tunisie 2000px
مجموعة «نورث فانداز» تطلب العدالة في قضية الراحل عمر العبيدي

قُتِل عمر العبيدي غرقا، أمام أنظار البوليس الذي اكتفى حسب شهود عيان بعبارة “تعلم عوم”،لتنتشر العبارة بين جماهير كرة القدم وتكثف شعارات احتجاجية منددة بقمع البوليس وبسياسة الإفلات من العِقاب. 

جلسة تلو الأخرى، سماعات وشهادات ومرافعات واحتجاج متواصل أمام محاكم العاصمة. 

مازالت قضية عمر العبيدي رغم تجذرها بين الجماهير، باختلاف انتماءاتهم الرياضية، تراوح مكانها بعد 6 سنوات، ومازال حق عمر، مطلبا شعبيا يؤرق وزارة الداخلية وأعوانها حد اللحظة. 

وفي حين تكرس الدولة سياسة الإفلات من العقاب وتصر على تطبيق “القانون” على الفئات الأكثر هشاشة والأقل حماية، أبناء الفيراج، يواصل البوليس عبثه في مدرجات الملاعب دون حسيب ولا رقيب، وتتواصل الانتهاكات ومحاولات القتل حدّ اللحظة. 

“تعلم عوم”، “تعلم اجري”، و” تعلم نڨز” مؤخرا (أحداث الدربي الأخير) وربما “تعلم طير” في المستقبل. 

كلّ هذا الجنون لن يؤدي مستقبلا إلا لمزيد تثوير المدارج ورفع وعيها أو إلى فوضى حقيقية. 

هوامش

———————————–

(1) مقال للباحث منير سعيداني نشر على “الفيصل” في 1 ماي 2018

(2) الألتراس في تونس: صرخة أزلية في وجه السيستام، الكتيبة، مقال لمالك الزغدودي

مقالات ذات صلة

  • “تعلّـــِم عُومْ” : الشارعُ الثائر بشعاراتِ المُـدرجّـات

    عبير قاسمي مدوّنـة من تونس "آخرتهــا مُـوت وعمرنـا ما نخُـونو" .. شِـعار يتكررّ من لافتـةٍ إلى أُخرى، كُـتِبَ عـلى عجلٍ…

    رأي

    Mg 9523