تلقيت في الخامس من ديسمبر 2023 مكالمة هاتفية من صديقي عماد، شاب قاطن بألمانيا منذ ما يزيد عن السبع سنوات تقريبا. كانت مكالمته قصيرة ومختصرة ومكثفة ” إيّاد، لم أحضر مسيرة في حياتي، وأريد أن أفعل الآن فلا أستطيع، أريد أيضا إلقاء بعض النكات البذيئة .” لو أردت تحويل المكالمة إلى رسالة نصية مكتوبة لصارت ” إيّاد أحس بالاغتراب، حد التعب والاختناق “.
موسم الهجرة إلى الشمال
قمت في الأيام الأخيرة بتمرين ذهني، فكتبت مائة اسم على ورقة بيضاء، المائة الأوائل الذين تبادروا إلى ذهني من الأصدقاء والصديقات ممن قضوا معي سنوات المرحلة الثانوية. ثم بحثت عنهم عبر صفحات مواقع التواصل الاجتماعي. 26 منهم يقيمون الآن خارج تونس (1/4). وإن كان الرقم مخيفا بعض الشيء، فالمرعب في الأمر كون المسألة لا تتعلق “بالخيار الفردي الحر” لهؤلاء، فربما ضِعْف العدد فكّر مرة أو أكثر في الهجرة، ولكن فقدانه لبعض الامتيازات وقف حائلا دون ذلك.
تخضع حركة الانتقال من الهوامش إلى المركز، إلى أهواء الأخير بالأساس، وإلى احتياجات سوقه الداخلي في كل مرة. استقبلت أوروبا مثلا، أعدادا هامة من المهاجرين عقب الحرب العالمية الثانية، وكان الهدف من ذلك تعزيز بنيتها الاقتصادية باليد العاملة الرخيصة، وتعويض ما خسرته في الحرب.
أما الآن، ومع تفاقم أزمتها الاجتماعية الداخلية، فهي تقوم بتسهيل هجرة الأدمغة والكفاءات في بعض المجالات، في حين لا تنفك تعسر الأمر بالنسبة للبقية عبر زيادة الإجراءات وتعقيدها، وعبر رفع الكلفة المالية. فالأمر بذلك لا يتعلق بالخيار الفردي كما يصيح الكثيرون، حرية التنقل ليست حقا للجميع، بل هي امتياز للبعض. وظلت الهجرة غير النظامية لوحدها تؤرق ليل الحكومات الأوروبية والغربية عامة وتعطل تحكمها في حركة الهجرة.
من وجهة نظر فردية، يعبر أبناء جيلي، جيل “المهاجرون الجدد”، عن استحالة الصمود في تونس في ظل تدهور اقتصادي متواصل وأزمة اجتماعية خانقة.
تنتقل هذه الفكرة تدريجيا، وتتحول من حالة فردية إلى حالة مزاجية شبابية عامة، بعد تقلص إمكانات وممكنات الفعل الجماعي الطامح إلى بناء بديل وواقع آخريْن. تلاشت تلك الأحلام الجماعية الكبرى التي غزت جيلنا وزعزعت أركان النظام في انتفاضة 17ديسمبر-14 جانفي 2011، وطفت قصص النجاح الفردي على السطح من جديد. وتراجعنا من خلاصنا الجماعي الممكن إلى خلاصنا الفردي الواهم.
وهم يحزمون أمتعتهم متجهين نحو بلاد “العكري”، لا يفكر هؤلاء عادة، أو جلّهم، سوى في تحسين وضعهم المعيشي، وذلك حق لهم بالتأكيد، وحين يسألون عن الوطن أو العائلة أو الأصدقاء أو عن كل ماهو مألوف يجيبون “الوحش ولا الأذى”.
7 أكتوبر، لحظة الحقيقة
إن لحظة الثورات والانتفاضات، واشتداد الكفاح، هي تكثيف لكل ماهو جماعي بالتأكيد، لذلك فهي تحدث رجة نفسية وعاطفية وحتى سلوكية بشكل عميق للغاية.
أولئك الذين هاجروا مثلا في سنوات 2006، كانوا فرحين بالتأكيد بما يحدث في تونس في ديسمبر 2010، كانوا يشاهدون ويتابعون وينتظرون ما يجري، يهللون لانتصارات الانتفاضة ويطيرون فرحا مع طيران بن علي إلى السعودية. ولكنهم أيضا كانوا يحسون بحزن بالغ، كونهم لم يشاركوا اللحظة مع من يشبهونهم ومن يستشعرون ويحسون بعظمة اللحظة. لحظة تونسية وعربية بفرنسا تجابه في أفضل الأحوال من قبل صديقك “الأبيض” بصوت هادئ وبلكنة فرنسية باردة ” ! Quel courage “.
مثلت لحظة السابع من أكتوبر حدثا مشابها من حيث الرجة النفسية التي أحدثتها، وربما أكثر، بما أنها لحظة عربية وجنوبية جامعة، وبما أن العدو الصهيوني يتواجد بالدول الغربية عبر لوبياته المتنفذة اقتصاديا، وعبر البروباغندا المسمومة التي تقدمها دول المركز. كانت لحظة الحقيقة، لحظتنا جميعا. لكننا استقبلناها بشكل مختلف ومتباين. ففي حين أجرينا اتصالاتنا الصباحية مبشرين بعضنا البعض ونسقنا مسيرتنا الأولى، عمّ الارتباك عند المهاجرين، رغم تسرّب الفرح.
ذلك التقارب المتواصل، وذلك الوهم بالتماهي مع المجتمعات الغربية، يتحول مباشرة إلى النقيض والضد، عند ما يتعلق الأمر بالمس من مصالح الامبريالية وفضح جرائمها البشعة عبر أصقاع الدنيا. ويتحول القبول المشروط منذ البداية إلى النفور الحاد.
الانتماء، أو كيف نُخلق من جديد
إن الاغتراب الذي تعنيه في هذا السياق هو ذلك المتعلق بمعنى الانفصال، على حد تعبير هيجل ، أي “الحالات الناتجة عن الانفصال المعرفي عن كيانات أو عناصر معينة في واقع الحياة، وكثيرا ما ينشأ عن هذا الانفصال حالة من الاحتكاك والتوتر بين الأجزاء المنفصلة. ” (1)
ونقصد أيضا ذلك الذي يتعلق بتلاشي المعاييرً الفكرة التي عبر عنها إميل دوركهايم، أي “أن المجتمع الذي وصل إلى حالة من “اللامعيارية” يصبح مفتقرا إلى المعايير الاجتماعية المطلوبة لضبط سلوك الأفراد وأن معاييره التي كانت تتمتع باحترام أعضاءه لم تعد تستأثر بهذا الاحترام الأمر الذي يفقدها سيطرتها على السلوك. “(2) من وجهة نظر التحليل النفسي، الفرويدي أساسا، يُخلق الاغتراب من التناقض الحاصل بين استحالة العيش في عزلة وانفراد وبين الإحساس الثقيل بالاضطهاد. ذلك تماما ما ينتج انسلاخ الفرد عن الجماعة وعن المحيط وحتى عن الذات. قد يكون الاغتراب سمة لهذا العصر عامة، عصر هيمنة الامبريالية والسوق المعولم، حين يحس الفرد بالاستلاب نتيجة خيبة الأمل التي تصيبه تجاه عمله ووجوده وماهيته المسروقة من أرباب العمل، ولكن هذا الاستلاب/الاغتراب يكون أشد وطأة وثقلا حين يرفق خيارا أو ضرورة بالغربة.
جاء في لسان العرب لابن منظور كون التغرّب يفيد البعد، والغربة عن الشيء هو تركه بعيدا. وقد درج اعتماد اللفظ اصطلاحا في حالات مغادرة الإنسان لوطنه أو لمسقط رأسه أو لمنشأه أو لكل ماهو مألوف يبعث على الشعور بالانتماء، “ذلك الشعور/القدرة على القبول داخل إحدى المجموعات الاجتماعية”. (3) إن هذه القدرة تتأتى أساسا من كل ماهو مشترك، لغة كان أم دينا أم تاريخا أم هوية أم سيرورة أحداث معاشة أم مصيرا. كلما اتسع هذا المشترك، اتسعت دائرة القبول والإنتماء، وكلما ضاق، ضاقت هي الأخرى.
جاء طوفان الحق العاصف، ليعرّي كل هذا اللبس المفاهيمي، بشكل ملموس، وواضح للغاية، وبان للمرة الأولى، وأتحدث عن أبناء جيلي، كون المشترك هناك، في دول المركز، أضيق بكثير مما تخيلنا. والأمر لا يتعلق بكل ماهو رسمي ومؤسساتي فقط، بل بالترسبات المجتمعية العالقة بين مقولات “الإنساني الكوني الجامع”. كتبت بيروت العابدي، المقيمة في ألمانيا، ذات اغتراب “أن تكون عربيا في ألمانيا اليوم يعني أن تدفن فرحك بأرض حررت ولو لدقيقة وأن يُنتزع منك حقك في رثاء أحبابك”. (3)
كان السابع من أكتوبر، تاريخ ميلاد جماعي، لنا جميعا، ولمن كانوا خارج الوطن آنذاك خاصة.
شهادة من قلب الشمال
كريم (اسم مستعار)، شاب تونسي انتمى إلى الحركة الطلابية في تونس بعد 2011، وواكب أخبار السابع من أكتوبر، من شقته الواقعة بحيّ يهودي بضواحي باريس، يروي شهادته على النحو التالي:
“في البداية لم تكن المسيرات المتوجهة إلى ساحة الجمهورية ( La Place de la République) مرخصة من قبل السلطات الفرنسية، وكانت الدعوات من أجل التظاهر تأتينا من قبل الناشطين العرب المقيمين بفرنسا والجمعيات وحركة المقاطعة BDS، قبل أن تنخرط أحزاب اليسار الفرنسي في ذلك، ورغم الترهيب الذي أطلقته السلطات تحذيرا من ارتكاب أية حماقة، انخرطنا طوعيا في التحركات. لم يقتصر الأمر على المهتمين بالشأن العام أو العارفين بتاريخ القضية الفلسطينية فحسب، بل شمل كذلك أعدادا هامة من المهاجرين الذين حركهم انتماؤهم العربي أساسا، والجنوبي أيضا، إلى إسناد المقاومة الفلسطينية وتأييد الحق وتثبيته”.
أما عن تعامل السلطات مع ما كان يجري، فقد أجابنا كريم :” لا يمكن إنكار القمع البوليسي لتلك المسيرات وسعيه لتطويقها. ورغم بعض المبالغة التي كنا نقرأ عنها بهذا الصدد في بلداننا، فقد كنا نعي جيدا كون الحركات المناصرة لفلسطين، والزخم الذي أحدثته حينها، هو ما وقف حائلا دون تمادي البوليس الفرنسي في الاستعمال المفرط للعنف ضدنا. لو كان باستطاعتهم لنكلوا بنا، لكنهم عجزوا عن ذلك. تلك هي الحقيقة”.
إن ما حرك الجماهير في تلك اللحظات، لم يكن الوعي التام بعدالة القضية أو صحتها أو نبلها، بل كان المحرك الأساسي لذلك هو الخزان العاطفي الذي حررته الصواريخ الفلسطينية. عاطفة استحضرت اللغة العربية، وذاكرة استرجعت التضييقات المتكررة على ما يطلقون عليه لباسا طائفيا (الحجاب)، وآذان أصغت لكل تلك الإهانات والضحكات عند مراقبة بطاقات الهوية.
تلاشى ذلك الوهم والانبهار الجارف بالمنجز الحضاري الأوروبي أمام ممكنات التحرر الجنوبي.
صفاء الشابي، ناشطة تونسية واكبت أحداث 7 أكتوبر من بلد شمالي آخر، من كندا. واعتبرت صفاء أن عدة أمور تغيرت بعد ذلك التاريخ، حسب تطور الوعي من شخص إلى آخر. أما عن تجربتها الخاصة فقد أكدت غياب الإحساس بالتجذر في المجتمع الكندي منذ البداية رغم وضعيتها الاجتماعية المريحة نسبيا، مقارنة بمهاجرين آخرين. ذلك الوعي بتواجدها، وغيرها من المهاجرين كجزء من المشروع الاستعماري، هو ما كان يدفع بتناقضاتها الداخلية إلى حدها الأقصى. تعتبر صفاء كون التحركات الجامعية التي حققت بعض المكاسب والأهداف المتمثلة في المقاطعة الأكاديمية لبعض المؤسسات الصهيونية، والمسيرات المناصرة للحق الفلسطيني، هي ما مثلت لوحدها ملجأ وإحساسا بالانتماء داخل عالم موازٍ لم يستشعر أهمية ما يحدث.
أما عن استحضار الهوية العربية، فقد تعاظم بعد السايع من أكتوبر على حد تعبيرها. وتعتبر صفاء هذه الهوية مسارا سياسيا ومصيرا مشتركا لمجموعة بشرية عاشت تاريخا مشتركا أيضا. مسار يتقاطع مع بقية دول الجنوب من أجل القطع مه هيمنة الرجل الأبيض والعالم الأبيض.
أعتقد أن هذه الكلمات وهذا الكم الهائل من المشاعر، الذي تنتجه معطيات مادية ملموسة تتعلق بموقعنا من هذا النظام العالمي، هو ما اجتاح المغتربين في دول الشمال، بعد السابع من أكتوبر، سواء كانت لهم القدرة على التعبير والتفصيل أم لا.
(1) الاغتراب بين الفلسفة والتحليل النفسي، معاذ قنبر، جمعية الأوان
(2) نفس المصدر السابق
(3) “أن تكون عربيا في ألمانيا”، نص لبيروت العابدي