23 سبتمبر، 2024. قصف آخر للبنان يرتكبه الكيان الصهيوني.
بغضب ومرارة، أطرح على نفسي السؤال: “أين العرب؟”، نفس السؤال الذي يُطرح علينا بانتظام في الغرب، وخاصة من قبل وسائل الإعلام، كلما قمنا بإدانة التواطؤ الغربي مع الإبادة الجماعيّة التي تُرتكب في غزّة واستمرار استعمار فلسطين.
أواجه شخصيا نفس السؤال، بشكل غير مباشر، في كل مرّة أحاول فيها أن أجعل أحد البيض يفهم أنّني خارج الخدمة لأنّ كياني بأكمله مرتجّ جرّاء ما يحدث، ارتجاج يعود حتما إلى كوني إنسانة (مع فقدان هذه الكلمة لمعناها أحيانا) ومناضلة من أجل القضيّة الفلسطينيّة، ولكن أيضا، وبشكل خاص، لأنني عربيّة. عندما أقول ذلك، أرى نفس السؤال يرتسم في رأس محاوري بنوع من التشكيك : “…ولكن أين العرب؟”.
أحاول أخذ بعض المسافة من غضبي لأفهمه. أقول لنفسي إنني سأُحوّله إلى شيء قد يخدم هؤلاء العرب أو عربا آخرين، أو غيرهم. أو حتّى يخدمني أنا.
“أين العرب؟”، بعض محاولات إجابات (لهؤلاء الغربيّين وإعلامهم)، وبُغية التذكير (لي ولغيري من العرب)، من باب “فذكّر…”:
أوّلاً، عندما نتحدث عن العرب، هل نقصد الشعوب أم الحكومات؟
يبدو التمييز بين الفئتين جليّا، لكن في الواقع، هذا ليس أمرًا بديهيًا، وغالبًا ما يتمّ تغييب الشعوب بشكل كبير من خلال الحديث عن “العرب” في العموم، في ظل سياق سياسي محدد للغاية. علاوة على ذلك، يقوم الغرب بالاعتراف بالعالم العربي عندما يناسبه الأمر، وبالإشارة إلى أنه ليس كيانًا متجانسًا، وأنّ هناك هويّات أخرى ومجموعات عرقية مهمّة في المنطقة، عندما يناسبه ذلك أكثر.
وبشكل أكثر تحديدًا، كعناصر للرد: إنّ المنطقة العربيّة بلا راحة أو هوادة منذ عقدين من الزمن على الأقل، فهي تعيش حروباً متواصلة، وجميع أنواع التدخّلات المباشرة وغير المباشرة يتمّ تعريفنا بأننا شديدي العنف، نحكّم مشاكلنا وصراعاتنا بالسيوف المشهورة والقبضات المشدودة. يتّهموننا، كما يقول طلال أسد (2008)، بأن ذلك جزء من ثقافتنا، في حين إنّ عنفهم “الأجوائي” (فانون، 1961، ص. 74) غير مرئي، لكننا نعيشه ونعيش تبعاته بشكل يومي؛ عنف يسمّونه “تدخلات إنسانيّة” و”عمليّات أمنية” و”أضرارا جانبية” (أسد، 2008).
عندما لا تكون هناك حروب، هي هجمات واغتيالات مثل تلك التي استهدفت السيد حسن نصر الله وأنا أنهي كتابة هذه الأسطر، وأزمات سياسية واقتصادية متزايدة، والتي من الصعب أن تُعزى فقط إلى الجماعات والقوى المحلية. تجد شعوب المنطقة نفسها عالقة في حياة يومية ترتكز على البقاء والسباق من أجل الحدّ الأدنى من الكرامة.
ومع ذلك، تهتزّ شوارعنا يومياً بصرخات وشعارات وأساليب احتجاجية مختلفة تطالب بالوقف الفوري للإبادة الجماعية وتحرير فلسطين من النهر إلى البحر، مع إيمان لا يتزعزع بأن هذا التحرير سيحرّر المنطقة جمعاء. “غزة تَتَحرّر وتُحرّرنا” شعار وهاشتاج منتشر في الدول العربية وتمّ تداوله في بعض الدول الغربية أيضًا. ويُفسّر ذلك بالعديد من العناصر التاريخية، والمصير المشترك الذي يجمعنا، الذي ندركه أو نشعر به على مستوى حسّي بحت.
الكيان الصهيوني خطر وجودي على العالم العربي برمته
إن الكيان الصهيوني لا يُشكّل خطراً على الفلسطينيّين والفلسطينيّات فحسب، بل إنه يُشكّل تهديداً وجوديّاً لجميع الشعوب والدول العربية.
لقد قصف (ولا يزال)، بشكل متواصل، سوريا ومصر والأردن. ولحظة تبلور هذه الكلمات، يقوم بقصف لبنان بشكل مكثف، معتقدا أنه سيقتل المقاومة فيه.
وفي أحيان أخرى، قصف الكيان الصهيوني وتدخل بشكل مباشر في تونس (من باب “ذكّر” أيضا، غدا، الأوّل من أكتوبر الذكرى التاسعة والثلاثين لأحداث حمام الشطّ الأليمة) والسودان والعراق. كما أنه تدخل لدعم الديكتاتوريات في المنطقة: عمان في أوائل السبعينيات، واليمن في الستينيات، بالإضافة إلى دعمه حتى للديكتاتوريات غير العربية في المنطقة، مثل شاه إيران الذي كان حليفا كبيرا له.
لنأخذ هذه الأمثلة فقط: في مصر، خلال حرب الاستنزاف، بين عامي 1968 و1970، أدّى القصف الإسرائيلي على سبيل المثال إلى نزوح مليون لاجئ-ة مصري-ة اضطرّوا إلى مغادرة مدن القناة واللجوء إلى القاهرة ومدن أخرى في البلاد، وفقًا للأستاذ جوزيف مسعد.
مثال آخر على التدخلات الدمويّة في المنطقة، في عام 1973، وبأوامر من غولدا مايير قام الكيان الصهيوني بإسقاط طائرة ليبيّة، ممّا أدى إلى مقتل 108 راكب من المدنيين-ات؛ وكانت تلك أوّل طائرة مدنية تُسقطها دولة ما. كما أنّنا لا ننسى أن الجولان السوري مازال محتلاً.
نرى جيدا أن الدماء العربية سالت بغزارة تحت السلاح والهيمنة الصهيونية، لكن أشكالاً أخرى من التدخل تمّت في العقود الأخيرة.
يتمتّع الكيان الصهيوني بحضور قويّ في جميع أنحاء المنطقة، بشكل مباشر في البلدان التي قامت بتطبيع علاقاتها معه خاصة منذ توقيع اتفاقيات أبراهام، والحضور، بطرق أخرى غير مباشرة، مع البلدان التي لا تزال تقاوم التطبيع أو تستحي منه.
هؤلاء العرب الذين يقاومون…
إن المقاومة العربية لما يحدث في فلسطين وأهميّة القضيّة الفلسطينيّة بالنسبة للعرب، وكذلك أهميّة العروبة بالنسبة للفلسطينيين-ات، ليست حديثة العهد. ومن المُوثّق أنّ الاحتجاجات في فلسطين كانت تحتدّ مع حدّة سعي ونضال الدول العربية للحصول على استقلالها خلال تلك الفترة، شكّلت المطالب القومية العربية أساسًا مهمًا لبناء الشرعية التاريخية في مواجهة المشروع الصهيوني في فلسطين، وأجّجت الصراع بين العرب والصهاينة حول “فلسطينية” الأرض. كما شكّل المشروع القومي العربي الذي لطالما مثّلت فلسطين قلبه، صوت الوحدة، وجبهة مشتركة ضد “إسرائيل”، مشروع تلّقى ضربة قويّة خلال ومنذ النكسة، عام 1967.
ومع ذلك، وبعيدًا عن الدول والحكومات، لطالما وُجد أيضًا زخم شعبي في المنطقة، مؤيّد للشعب والقضية الفلسطينية، وهو زخم قديم قدم الاستعمار. على سبيل المثال، كان الآلاف من المغاربة قد تطوعوا للجهاد لتحرير فلسطين خلال النكبة، عام 1947. وكان من بينهم أولئك الذين أصبحوا فيما بعد قادة المقاومة المسلحة، وأبرزهم الأزهر الشرايطي في تونس، والذي أمضى عامين في القتال في فلسطين قبل أن يعود إلى تونس عام 1949، للمشاركة في الكفاح المسلّح ضد سلطات الاستعمار الفرنسي. كما كان العديد من الشباب المغاربة قد تطوعوا خلال الثورة الفلسطينية في السبعينيات والثمانينيّات، لكننا نادرًا ما نتحدّث عنهم.
لنعد مرة أخرى إلى السؤال، الذي نادراً ما يكون بريئاً، “أين العرب؟”. ربما لا يسعنا، اليوم بالتحديد، إلا أن نُقرّ بأن البلدان التي تواجه أكثر من غيرها الكيان الصهيوني، هي أيضا دول أو فصائل عربية: لبنان، اليمن، العراق، وذلك على الرغم من الموارد المحدودة للغاية في كثير من الأحيان والتكلفة لباهظة للغاية للأمر. إلى جانب إيران بالطبع…
البعض بعيد كلّ البعد عن الركب، لكنّ البعض الآخر يقود ساحات المقاومة والنضال…
وكما تقول ليلى شهيد في “فلسطين والعرب والعالم العربي: بين الخصومات والتمثيل”، فإنّ القضية الفلسطينية تُشكّل جرحا عميقا في النفس والشخصيّة العربيّة، تُعيد العرب إلى قرون الاستعمار التي عانوا منها والظلم الذي لم يقبلوه أبدا. فهو يظلّ جرحًا مفتوحًا، وأينما كانوا في العالم العربي، ولكن أيضًا في أماكن أخرى، يتعرّف العرب على أنفسهم في هذا الجرح المفتوح والعميق على المستوى العاطفي، والذي قد ينتج الإحباط والعنف.
وما غياب بنية قومية عربية إلا أمرا آخر يجعل من فلسطين ما يُوحّد العرب، وبالتالي فهو ذو طابع مركزي للشعوب العربية المتّحدة حول القضية الفلسطينية.
لا يمكن إنكار شعور الانتماء المشترك هذا، رغم الضربات التي يتلقّاها في بعض الأحيان، خاصّة مع لحظات انكسار أو شكوك في الاختراقات أو عمالة وخيانة البعض. شعور يؤكّد قوّته المؤرخ الفلسطيني إلياس صنبر في كتابه “فلسطين 1948. الترحيل”، من خلال تسليط الضوء على عمق هذا الشعور بالانتماء لدى الفلسطينيين-ات إلى الأمة العربية.
“ضد خطاب الهزيمة، هيهات منا الذلة”
قد يكون سؤال “هل يمكن للعرب أن يفعلوا أكثر وأفضل؟” أكثر نجاعة ومعنى، ولكن طرحه يجب أن يتم حصريّا من قبل عرب. جواب عربيّة هو: قطعا نعم! يمكننا أن نفعل أكثر، وحدود هذه الـ “نعم” تتزايد كل يوم قليلاً، رغم أن البعض لا يملك ترف انتظار تمديد هذه الحدود
يمكننا، بل ويجب علينا، أن نقوم بالمزيد، لو إننا لا نريد الإندثار، أن نكون مثل الثيران والأسد. يجب ذلك إلا أنه من المؤكد أن وسائل الإعلام الغربية التي تطرح علينا سؤال: “أين العرب؟” والاستعمار الجديد الذي ينخرنا نخرا، ليسا من يساعداننا في هذا، استعمار جديد مرتبط باستعمار قديم-جديد، استعمار فلسطين، واحتلال وتدخلات عسكرية في أجزاء رئيسية من المنطقة، مثل لبنان، حيث يقع استهداف الذاكرة أيضا.
وفي هذا الصدد، يؤكد المؤرخ الفلسطيني صالح عبد الجواد في مقالته “حرب 1948. بين الأرشيف والمصادر الشفوية”، المنشورة في مجلة الدراسات الفلسطينية، هذه السياسة التي ما فتئ ينتهجها الكيان الصهيوني في فلسطين، والتي تستهدف بطريقة ممنهجة إنتاج وأرشفة التاريخ في فلسطين، وذلك عبر التدخل بشكل مباشر في المحتوى الذي يُمثّل إشكالا بالنسبة له، عبر إغلاق مراكز الأبحاث وممارسة الرقابة على المؤرخين-ات، إلخ. وفي لبنان أيضًا، في أعقاب الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، اضطرّ مثلا مركز الأبحاث الفلسطيني إلى إغلاق أبوابه بعد أن صادر الجيش الصهيوني أرشيفه وألحق أضرارًا جسيمة بمبانيه.
كل هذا يتماشى مع مقولة دافيد بن غوريون: “الكبار سيموتون والصغار سوف ينسون”.
لكن هؤلاء يحفظون أسماء شهدائهم وشهيداتهم، ويردّدون اليوم من الشوارع العربية والمهجر: “سنحرر فلسطين ونحن أحياء”! و”هيهات منا الذلة” و”إذا كنتم تريدون بعض السلام، ارفعوا أيديكم عن الشرق الأوسط” « We will free Palestine within our lifetime »! .؛ “If you really want some peace، hands off the Middle-East”!
المراجع:
- Abdel Jawad, S. (2005). La guerre de 1948. Entre archives et sources orales. Revue d’Études Palestiniennes, N94-97, 59-77.
- Asad, T. (2008). On suicide Bombing. New York: Columbia University Press.
- Fanon, F. (2002) [1961]. Les damnés de la terre. Paris: La Découverte/poche.
- Shahid, L. Entretien avec Giblin, B et Blanc, P. La Palestine, les Arabes et le monde arabe : entre rivalités et représentation. Hérodote
- مسعد، ج. حوار. لماذا- “إسرائيل” عدو إيديولوجي؟ مجلة الاداب. الرابط
- Revue de géographie et de géopolitique, 2016, 160-161, pp.273-286.
- Sanbar, E. (19884). Palestine 1948 : L’Expulsion. Paris : Les Éditions de minuit-Les livres de la Revue d’Études Palestiniennes