الحليف وقتيّ والشّعب دائم

17/12/2024

تصميم أمل الورثي

انتهى نظام البعث في سوريا، بعد عقود من الحُكم. انتهى وتهاوى بشكل سريع لم نتوقّعه. فالنظام السّوري ورأس هرمه، دأبا منذ الانتفاضة الشّعبية في 2011، والتّي سرعان ما تحوّلت إلى حرب أهليّة ومن ثمّ إلى حرب إقليميّة، على التمّسك بالحكم وعلى عقد التحالفات وعلى تقديم التنازلات أيضا، لصالح الرّوس والإيرانيّين، “الحلفاء الاستراتيجيّين”. انهزم النظام بالفعل.

في المُقابل لطالما غذّى الأمريكيّون والصهاينة، مُستعينين بالأتراك وبالرجعيّة الحاكمة في الخليج العربي، الحرب الإقليميّة في سوريا، فراهنوا على ورقة الجولاني، ومن يُشبهه.

وإذ أنّ هذه الحرب الضروس الدمويّة استمرّت لمدّة تناهز ال13 سنة، كان من الغريب سرعة تهاوي الأسد أمام ضربات “هيئة تحرير الشام” وبقيّة الفصائل المُشابهة لها والمنضوية تحت إمرتها وقيادتها.

طوفان قوبل بالخذلان

أعطى طوفان السابع من أكتوبر، جرعة جديدة للكفاح العربيّ- ليس الفلسطينيّ فحسب- ضدّ الهجمة الصهيونيّة والامبرياليّة المسعورة على الوطن العربيّ وعلى كلّ المنطقة، ومخرجا من مأزق/خيار التبعيّة المستمرّ لهذه الأنظمة العربيّة المتساقطة الواحدة تلو الأخرى، والتّي لم تستوعب الدّرْس من هبّة جماهيرها ذات 2011.
ولا أقول أنّ مُهندسي الطوفان قد عوّلوا على هذه الأنظمة من أجل استنهاض الهمم وتنظيم الجيوش واستنفار المُقاتلين، والاتّجاه نحو الأراضي المُحتلّة من أجل قصف العدوّ كما يفعل. ولا أقول أنّ قادة الطّوفان قد انتظروا مُقاطعة شاملة من قبل هؤلاء لكيان الاحتلال، ومُحاصرته اقتصاديّا وسياسيّا في هذا الظرف العصيب.
ولكنّي أظنّ أنّ المرابطين الأبطال الصّامدين في القطاع لم يعلموا أنّ حكّام أمّتنا سيكونون، حرفيّا، في خندق العدوّ الصهيونيّ بهذا الشكل السّافر من التواطؤ والخُنوع.


في أرض منبسطة وفي مساحة محدودة، استطاعت أسراب الفدائيين جرّ العدوّ إلى عام كامل من القتال المُضني والمُكلف والمستنزف، وشكّلت جبهة لُبنان -قبل عقد الاتّفاق- متنفسا هاما، خاصّة مع المكاسب الهامة التيّ حققتها ميدانيّا بعد توغّل الكيان في جنوب لُبنان.
لكنّ الهزائم تتالت وتهاطلت على “المحور”، بسرعة بالغة، وأعتقد أنّ اغتيال نصر اللّه كان حاسما ودقيقا في سيرورة المعركة، وفي كلّ ما يحدث في المنطقة الآن.
سبق الاغتيال، حدثيْن مُهمّيْن للغاية، إذ انفجرت آلاف من أجهزة الاتصالات يوم 17 سبتمبر، فيما عُرف بعمليّة “البيجر” التّي كشفت حجم الاختراق الصّهيوني في لُبنان ودقّت ناقوس الخطر بشكل مُخيف، وهوجمت إيران من قبل الكيان في السادس والعشرين من أكتوبر ولم ترد، ويبدو أنّها حاولت قدر الإمكان التستّر على حجم الضربات التي استهدفت قواعد الدّفاع الجوية، ومنظومات إنشاء الصواريخ.
لكنّ اغتيال نصر اللّه،كان حاسما أكثر من أيّ شيء آخر. لم يكن الشهيد مُجرّد شخصيّة رمزيّة قائدة ومُلهمة في الذهن العربيّ فحسب، بل اتّضح بالوقائع الملموسة حجم ودور السيّد في المحور، وهو ما عبّر عنه نتنياهو بـ”محور المحور”.
ورغم أنّ حزب اللّه واصل القتال في الجنوب ببسالة وبطوليّة، وألحق الخسائر الجسيمة بكيان الاحتلال، وأعطى كلّ المؤشرات كون له ما يكفي من القدرة والنضج التنظيميّيْن ليُعيد ترتيب أوراقه في سياق الحرب وفي غمارها، إلاّ أنّه فاجأ الكثير منّا بعد توقيعه اتفاق وقف إطلاق النّار.

سوريا، هزيمة اليوم وضبابيّة الغد

تُمثّل سوريا اليوم، مثالا واضحا لاحتدام التناقضات ولحسمها لصالح أحد الطرفين على حساب الآخر، بغض النظر عن موقفنا من طرفيْ التناقض.
توجد العديد من الأحلام والمُتخيّل وتوجد العديد من الوقائع والملموس أيضا. وتؤكد الوقائع أنّ نظام البعث في سوريا قد خنق كلّ المُمكنات الثوريّة للطبقات الشعبيّة السوريّة المُفقّرة طيلة عقود من الزّمن، وواجه كلّ مُعارضيه بالسجن والتعذيب والقتل والتشريد، مهما تكن منطلقاتهم للمعارضة، وطنيّة أم عميلة. إنّ هذه الوقائع تؤكّدها سجون بشّار ومعتقلاته وعدد المناضلين القابعين في سجون عائلة الأسد حتّى قبل تاريخ 2011. في المُقابل تؤكد الوقائع أيضا أنّ سوريا كانت خطّا للإمداد، أو سكوتا عنه، أو لعب دور ما إلى جانب المقاومة اللّبنانيّة. قد لا تُعجب الوقائع أصحاب المواقف الوثوقيّة اليقينيّة التّي لا ترى من الألوان إلّا الأسود والأبيض. والتّي ترى نفسها مُضطرّة للاصطفاف وراء هذا أو ذاك بحجّة واحدة دون النظر في سواها، فبشّار الذي قمع ورهّب وسجن وعذّب كان يحكم في سوريا التي تستقرّ بها عدّة فصائل فلسطينيّة لم تجد مكانا آخر تتواجد به طيلة السنوات الفارطة.

يتبادر إلى ذهني من زاوية تعقيد المشهد، نظام محمد مرسي في مصر. إذ أنّ ذات النظام الذي صعد إلى مصر في سياق لعب الامبرياليّة لورقة الإخوان المسلمين وتقاطع المصالح معهم، كان يغمض العينيْن في عديد المرّات على مرور السلاح إلى غزة (وهو ما لا يفعله السيسي بطبيعة الحال).
نعم المشهد دائما مُعقّد، ولا يتماشى مع الأفكار الرومانسية والجازمة والقاطعة لمن هم خارج المعادلة من الأساس (وأقصدنا: قوى اليسار الثوري). وليس من العيب في شيء أن نقول أنّ الواقعة “أ” تُقابلها الواقعة “ب”. وبما أنّنا خارج المعادلة، كما قلت سابقا، فلنتحلّى بنظرة موضوعيّة وبموقف مستقلّ على الأقلّ، ليس موقفا للتاريخ نرفض أن ننقده في المستقبل، بل موقفا يفتحُ إمكانات على الأقل.
إنّ توغل الكيان الغاشم في سوريا، في ظلّ كلّ هذا الصمت ممّن استلم الحكم الآن – والذي عبّر أنّ الشعب السوري منهك من خوض الحرب وأنّ الهدف كان إسقاط الاحتلال الإيراني لا غير- ومن العالم الحرّ الذي عقد صفقته وانتهى، لا يُمكن أن يُمثّل إلا هزيمة أخرى في سياق الطوفان. كما تمثل نقطة إضافية  لمجرمي الحرب الذين ابتهجوا بالدّور الذين لعبوه في هذا التغيير، وبقدرتهم على اقتناص هذه اللحظة التاريخية وكسب سوريا لصفوفهم لمدّة من الزّمن (وليس للأبد).

درس جديد في سوريا؟ فهل نبني على الأنقاض وطنا؟

لا يتوقّف التّاريخ عن تلقيننا الدروس، وأحيانا الصفعات القاسية. ولكنّ العيب يكمن أساسا في إنكار الواقع وتكرار الأخطاء بحذافيرها مع تغيير الأسماء والعناوين.

1- عن فهمنا للتحالفات؟
منذ أيّام تتهاطل الدّموع مدرارا، وتنتشر اللّطميّات والبكائيات والولولة. ولا أقصد التقليل من الإحباط العاطفيّ أو الاستهزاء بمشاعر الذين يرون مستقبلا مظلما لوطنهم. بل أتحدّث عن أولئك الذين يتحدثون عن “خيانة إيران” و”بيع روسيا لهم” و”انسحاب الحليف والصديق” الخ …
روسياتحفظ مصلحة روسيا أولا، وإيران تحفظ مصلحة إيران قبل كلّ شيء، ومن ثمّ قد تتقاطع الطرق والمصالح والسبل. ولكنّ روسيا وإيران وأمريكا والكيان وتركيا مستعدّون دائما لإيجاد الصفقات من أجل المحافظة على مصالحهم داخل مُستعمراتهم الجديدة أو المنشودة. وكلّ المؤشرات الحاليّة تدلّ على إتمام صفقة ستتّضح معالمها آجلا أم عاجلا.

إذ سارعت تُركيا إلى إعلان الانتصار “للجولاني” وأصحابه بزيارة إبراهيم قالين، رئيس الاستخبارات التركي، إلى دمشق، وتعيين برهان كور أوغلو، قائما بأعمال شؤون السفارة بسوريا، المعلّقة منذ سنة 2012. في انتظار الزيارة التي سيؤديها أردوغان بعد ترتيب الأمور.

كما سارعت الولايات المتحدة الأمريكيّة بإرسال وزير خارجيتها بلينكن إلى أنقرة يوم الخميس المنقضي، من أجل بداية الحديث عن ترّهات “وحدة سوريا وأراضيها”، وبداية الانكباب على إعادة الإعمار، أي ما يعني تقاسم النفوذ بين المعنيّين بالأمر وضخ رؤوس الأموال لمبالغ طائلة من أجل تقاسم السوق.

في المقابل، كانت تصريحات طهران خجولة ومتضاربة في بعض الأحيان، إذ أنّ علي خامنئي أكّد يوم الأربعاء أنّ ما حدث في سوريا هو تخطيط من الغرفة الأمريكية “الإسرائيلية”، في حين أنّ سياسة الخارجيّة الإيرانيّة كانت أكثر برودا في التفاعل مع المجريات، بل أكدت أنها لا تجد مشكلة في التعامل مع المستجدات الجديدة، مادامت السلطة الحاليّة لن تعتبر إيرانا عدوّا مباشرا. إنّ هذا التضارب في التصريحات وفي حدّتها، يطرح السؤال عن إمكانية حقيقية لصراع قائم داخل النظام الإيرانيّ وعن إمكانات حدوث تغيّرات جوهريّة في المستقبل داخل طهران.

في المُقابل، روسيا، وهي الضّلع الرابع في المشهد العام، تولي اهتماما واضحا بالملف الأوكرانيّ، ويبدو أنّها مستعدّة لعقد كلّ الاتفاقات والصفقات من أجل ذلك، خاصّة وأنّ القواعد الرّوسيّة في سوريا لم تتضرّر حدّ اللحظة.

كلّ المؤشرات والمعطيات تُفضي إذا إلى وجود صفقة حقيقيّة أطاحت بحكم بشّار في الأسبوع المنقضي.

2- مشروع دون حاضنة شعبيّة، ساقط لا محالة

يبدو أنّ الدّرس الأهم الذي لم تستوعبه أنظمتنا، من المستبدّة المتشدّقة بالشعارات الوطنيّة إلى الموغلة في وحل التطبيع والعمالة، أنّ الحليف وقتيّ والشّعب دائم، فالتحالفات الاستراتيجيّة التّي حدّثونا عنها والأصدقاء الدّائمين، خاصّة في سياق غياب الندّية وحضور التبعيّة، قد تسقط بالضربة القاضية في أيّ لحظة، دون حاضنة شعبيّة تتبنى خيارات هذا النظام وتُدافع عنه وتستعدّ للتضحية بأرواحها من أجله.
لن تكفي سياسات التّرهيب الأشدّ بطشاً، ولن تكفي أكثر الأساليب وحشيّة في منع سقوط هذا النظام أو ذاك، فما بالك بمن يتحدث عن مقاومة ماكينة امبريالية غاشمة لا تتوانى في سفك دمائنا.
لم تكن حماس لتصمد داخل قطاع غزّة دون الحد الأدنى من الحاضنة الشعبيّة الرّافعة لخيارات الكفاح المسلّح، ولم يكن  حزب اللّه ليتمدّد وليزدهر طيلة هذه السنوات، لو لم يلق الدّعم الرئيسي من قبل أهل الجنوب قبل أن يلقى السّلاح أو الدّعم الإيرانيّيْن.

3- من أجل حرب التحرّر، لابدّ من جبهة داخليّة متماسكة

إنّ التماسك الدّاخلي الذي نتحدّث عنه لا يجب أن يعني بأي حال من الأحوال الدّفاع عن المرتزقة مدفوعي الأجر المستعدّين لعقد صفقات البيع في أيّ لحظة، بل يجب فضحهم ومحاسبتهم ومساءلتهم، وإبراز خذلانهم لمصالح عموم الجماهير العربيّة وكادحيها ومفقريها. ولكنّ التماسك الداخلي يعني بالأساس دمقرطة فعليّة للفعل السياسي وعدم احتكار له وعدم التعامل مع المختلفين بشكل موغل في الوحشيّة وتقسيم الجماهير على أسس طائفيّة رجعيّة أو تفقيرها واحتكار مكتسبات الوطن والمقدرات بشكل يتماهى فيه النظام السياسي القائم مع الحزب ومع العائلة.

4- لا تفضيل بين الديمقراطية والوطنيّة والأفق الوحدوي

سقطت الأنظمة التّي تمّ اعتبارها ذات توجهات وطنيّة أو ذو نزعة وطنيّة. سقط نظام القذافي في ليبيا وسقط نظام صدّام في العراق وسقط الآن نظام بشّار في سوريا (يعتبره البعض ذو نزعة وطنيّة على كلّ حال) وسقط قبلها جميعا نظام عبد النّاصر الذي حقّق المنجز الاجتماعيّ الأفضل بينها، حسب تقديري.
ارتكبت هذه الأنظمة أخطاء تصلُ حدّ الجرائم أحيانا في حقّ شعوبها بتعلّة هذه الشعارات، وتركت أقطارا معرضة للفوضى العارمة وللحروب الطائفيّة الرجعيّة الداخليّة، ولقمة سائغة أمام الديمقراطية الليبرالية المُسقطة ممن قبل “أذكياء الغرب”.

في المُقابل، عشنا في تونس تجربة الانتقال الديمقراطي، المليء بالثرثرة الجوفاء، والحاملة لنفس الخيارات المشينة التي انتهجناها قبل وبعد ذلك.


وكأنّنا كنّا نختار في كل مرّة واحدة على حساب الأخرى، ونعتقد أن واحدة ستنجح دون أخرى.
أمّا عن الأفق الوحدويّ، وأقصد العربيّ أساسا، سيُقابل بالضحكات “الذكيّة” التي ارتفعت ذات نكسة في 67، وستُواجه بتُهم الأوهام والطوباويّة، كما العادة تماما.
ولكن من لم تُعلّمه فلسطين، ومن لم يقرأ خذلاننا للسابع المجيد، سيواصل إنكاره للممكنات، وسيستمرّ في خيارات الاصطفاف وأفضل “الشرّيْن” مُستقبلا.

إنّ هذه الوحدة لا يجب أن تكون وحدة أنظمة تحفظ مصالحها الخاصّة، ولا يجب أن تكون وحدة شكليّة تنتهي مع أول حاجز امبرياليّ، إنّها وحدة عميقة تقوم على التفكير في مصيرنا، مصيرنا جميعا، حتى لا يأكلنا الذئب فرادى، كما يفعل الآن.

وعلينا قبل كلّ ذلك أن نُقرّ بأنّنا سننطلق من موقع المهزومين، ليس من موقع الندّية، وليس من موقع تزيين الحقيقة وتجميلها والتشبثّ بالوهم. ولكنّنا سننطلق أيضا من إيماننا الرّاسخ بقُدرة الشعوب على النُهوض، وعلى كسر القيود، كما فعلت، وكما ستفعل دائما لأجل حرّيتها.


لا أجد أفضل من كلمات ياسين الحافظ لأنهي بها، والتي وردت في كتابه ” في المسألة القوميّة الديمقراطيّة”، حين يقول “الوحدوي الذي يملك نظرة واقعيّة ثوريّة، لا يسعه إنكار الهزيمة أولا، ولا يسعه إلّا أن يأخذها في الاعتبار”.



مقالات ذات صلة

  • سقوط الأسد وإعادة خلط أوراق الشرق الأوسط

    سوريا الجديدة... طريق مليئ بالألغام والمستقبل رهين ذكاء السوريين حتى نتمكن من تحليل الوضع في سوريا اليوم واقعيا، يتحتّم علينا…

    رأي

    blank
  • افتتاحية | عن صعوبة المرحلة وبعض دروسها…

    عندما كتبنا قبل حوالي شهرين ونصف عن "الأيّام المصيرية" التي تعيشها المنطقة العربية، لم نكن نتوقّع أن تتسارع الأحداث بهذه…

    افتتاحيّة, الموقف

    blank
  • رأي | التوجهات الاقتصادية في المنطقة العربية: بين مقاربات برجوازية الدولة العميلة و النظرة الدونية للإنسان العربي

    استرعى انتباهي خبر متعلق بجدول تخفيف الأحمال الكهربائية للمحافظات المصرية .و قد تعجبت منه نظرا  لزمن الخبر ( فيفري 2024)…

    اقتصاد سياسي

    قاربات برجوازية الدولة العميلة و النظرة الدونية للإنسان العربي 2
  • جيل الألفية: البحث عن ضوء آخر النفق

    "وتهدينا الحياة أضواء في آخر النفق، تدعونا لكي ننسى ألما عشناه" كلمات من أغنية عهد الأصدقاء " نردّ على من…

    ثقافة وفنون

    375133171 10220388347853462 7009398161097872491 N