يُمثّل الرئيس قيس سعيد، في كلامه ومواقفه وسياساته، تجسيما من نوعية غريبة وغير مسبوقة تقريبا لمنهج ” التفكير المزدوج” double think الذي تحدث عنه الإنكليزي جورج أورويل في روايته “1984” . لكن إن كان منهج “التفكير المزدوج” في الرواية قد مثّل بلوغ النظام أوج فاشيته، وصعد لمستوى الفلسفة السياسية المعتمدة في الحكم والسيطرة، صار معها ” الأخ الأكبر ” هو المالك الحصري لمختلف الوجوه المتناقضة للحقيقة. وغدت “الفاشية” معه على درجة من الشمولية لحدّ احتكارها لمعتقديْن متناقضيْن في آنٍ واحد على أنهما صحيحان، ووعي الحقيقة الكاملة ثم ممارسة الكذب بمستوى وعي مماثل. وشحن المفهوم الواحد بالمعنى ونقيضه بعد تفريغه من نسبيته وتاريخيته وسياقه. واللعب على تدمير الذاكرة بالطمس اليومي لحقائق الواقع واشكالاته المعقدة، واستبدالها بصورة مركبة في ” وزارة الحقيقة”minitruth لجملة من المعطيات التي تتعرض للتعديل، وتتعلق كلّها بعدوّ وهمي للأمّة لابد من صرف شحنة الانفعالات الغاضبة نحوه.
وأخيرا بامتلاك ” الأخ الأكبر” حق التصرّف في مختلف وجوه انتاج الحقيقة وتبديلها، ننسى معه أن حصّة كل فرد من الشعب من “البنّ” كانت أمس تبلغ 25 غراما، وتقلصت اليوم لتصير 15 غراما. لا ينبغي لنا، مع سيل التزويرات المتتابعة للحقائق، أن نقول في الغد “لقد تقلصت الحصة من 25غ الى 15غ”. بل أن نقول: ” لقد زادت الحصة لتصل إلى 15 غرام للفرد الواحد”. ولا سبيل للمقارنة أو معرفة كم كانت الحصة أمس، لأن حقائق ذلك الأمس ومعطياته ذهبت كلها في الثقب الأسود للذاكرة المطموسة على نحو مسترسل. يصل بنا “الأخ الأكبر” مستوى من اللامعقول يصير معه أمرا ممكنا حساب العددين 2*2 على أي نتيجة.
بينما في مثال قيس سعيد، لا يتعدى اعتماد منهج ” التفكير المزدوج” أكثر من العشوائية والتخبّط المضحكيْن. قول الشيء وممارسة نقيضه، لكن تظل “نظرية المؤامرة” والمتآمرين الذين يعرقلونه على الدوام ويفسدون عليه برامجه، وتعادل عند الأخ الأكبر “الحضور الدائم، المشحون بالمخاوف، لعدو الامة” غولدشتاين، العدو الخفي المتربص بالبلاد، الذي يخصه شعب دولة ” الأخ الأكبر” بدقيقتين للكراهية كل يوم، ثابت من ثوابت سياسته.
وقد عثر قيس سعيد أخيرا على العدو الجمعي للأمّة، الذين لم يكن أغلبهم غير مجموعة من المعارضين العُزّل، لا علاقة لهم بالفساد ولم يحملوا سلاحا ضد الدولة يوما. وفيهم من كان فاسدًا وما تزال تضجّ الدنيا بفساده ( كمال اللطيف مثالا). لكن طلقة قيس سعيد ضدهم جاءت بعيدة عن المرمى، وتم تمييع القضية الأصلية التي لم يُثرها القضاء ضدهم، وفق شروط قانونية تكفل محاكمة نزيهة وعادلة، لحساب مجموعة من التلفيقات جميعها تتعلق بتهم وهمية. وبالقدر ذاته الذي كانت ستمكّن هذه المحاكمة، لو حصلت، كلّ متهم من الحق الشرعي في الدفاع عن نفسه، طبقا للقاعدة التي تقول أن المتهم بريء حتى تثبت إدانته، كانت كذلك ستعرّي الذين أجرموا وتفضح إجرامهم بالأدلة البينة أمام الناس. لكن لا شيء من هذه الاعتبارات بوسعه أن يُفسد على قيس سعيد نصره المؤزّر على عدو الأمّة الوهمي، بعد أن صدرت ضدهم أحكام ثقيلة وغريبة غاية الغرابة، فلا قانون غير قانونه ولا رأي إلا ما يراه هو.
الفاشية تجد اسنادا لها على المستوى الشعبي، خصوصا عندما تختلط على الناس السبل، ويعاني البشر من تتابع عهود من الحكم الفاسد، سواء بوجه صريح في فساده واستبداده، مثل عهد بن علي، أو بوجوه مقنّعة بالديمقراطية والتشاركية التي لم تكن غير سلسلة من المحاصصات السياسية هدفها تقاسم النفوذ بين القوى التي حُرمت منه في العهد السابق، قتلت في البشر الأمل في المستقبل وزادتهم قهرا وبؤسا ويأسا، مثل عهد ” العشرية السوداء” التي أعطت بحماقة من تعاقبوا على الحكم خلالها، وأفسدوا المشروع الثوري لـ17 ديسمبر وحوّلوه لتسابق قبيح على الغنيمة، المبرّر الوجيه لمجيئ ” الرجل المنقذ” أخيرا، الرجل النظيف النزيه، نقي التاريخ.
هنا يغطّي ثقل ما يعيشه البشر ورغبتهم في الخلاص ممّا هم فيه بأي ثمن، على خواء جراب المنقذ من أي مشروع أو فكرة أو حتى مجرد فهم سليم لحقائق الواقع. لأنّ مجيئه يبدو للناس مثل كوّة أخرجتهم من سرداب مظلم وتدفّق منها بعض الهواء. يكفيه أن يقول أنه جاء لينفّذ المشيئة الشعبية المعطلة، ويتوعّد جميع الفاسدين بالويل والثبور، ليجد الاجماع الساحق، لأنه وفر للأغلبية المقهورة والمغيبة منفذا للتنفيس عن الأحقاد التاريخية المتراكمة. ولأنه قدّم لهم ما يزعم أنه الكشف عن خيوط التآمر التي تعبث بمصالح “الشعب” وتعرقل تحقيقه لآماله. فهي بذلك ليست مجرد اشباع سريع لنوازع الحقد التي تموج بها نفوس المقهورين، بل وعدٌ بجنة وهمية سيبلغها الشعب بعد أن يتخلص نهائيا من “وجوه التآمر”.
هكذا تبدأ الفاشية عهدها وتباشر مهامها، لكن بما أن قيس سعيد يُدرك بينه وبين نفسه أنه لا يملك سياسة ولا رؤية بوسعها حل الإشكالات المعقدة لواقع التونسيين المزري، فلا مفرّ له من القيام بابتداع العدو الوهمي مرّة إثر كرّة، لابدّ من عدو ولابدّ من معرقل ولا بدّ من شبكة تآمر. وها هو أخيرا في المزّونة، يمضي بعيدا في تيهه كالمعتاد، فلا يرى الهمّ النازل في البنية التحتية الخاربة للمدارس والمعاهد والمستشفيات، ولا يرى لامبالاة مختلف أجهزة السلطة بهذه الأوضاع التي انتهت بمأساة. بل نجد تركيزه منصبًّا على العدو الذي يقف وراء اشعال الاحتجاجات التي ثارت بعد سقوط جدار المعهد وموت ثلاثة تلاميذ.. إنهم دون ريب.. جماعة ” غولدشتاين ” الكريه عدوّ الأمّة وعدوّي : العملاء الذين يموّلون ” التحركات الليلية” من الخارج، وهدفهم دون ريب اسقاط النظام والحلول محلّه…
تقوم الروح الفاشية بإحداث حالة تماهٍ غريبة بين الواحد والكُلّ، تجعل الحاكم بأمره يشعر بنفسه حاملا لنبض الشعب برمّته. ليس بمعنى أنّه حامل لهمومه أو معنيًا بإخراجه من سراديب الفقر والحرمان والتهميش، تلك مهام من المستحيل إنجازها الا بشكل جماعي، فهما وفكرة وتصورا وتنفيذا. بل بمعنى آخر يحمل في أحشاءه قناعة ميتافيزيقية، مفادها أن أي اعتراض على مشيئته الفردية هو اعتراض، بل اعتداء، على المشيئة الجماعية التي يمثلها هو . يختفي الواقع لحساب حالة ” تذهّن” لذلك الواقع، كأن الحاكم بأمره ينظر للدنيا من خلال مرآة محدّبة، تنحرف معها هيئة الأشكال واتجاهها وأحجامها، يتضخم فيها ما هو صغير تافه، مثل منشور فايسبوكي أو مكالمة هاتفية فيها نقد لسياساته، أو لقاء ليلي بين شخصين معارضين له، ويرى في ذلك كله مؤامرة كبرى على مشروعه الوهمي. بينما يتقزّم في عينيه ما هو مهمّ وحيوي، مفضيا به لحالة لا معقولة من التفكير المزدوج.
- الحاكم بأمره يقدم نفسه مدافعا مستميتا على السيادة الوطنية، لكنه لا يني عن التوقيع على اتفاقيات الحصول على قروض جديدة، لا أحد يعلم شيئا عن وجوه صرفها. هل يدرك الحاكم بأمره أن الارتهان لنظام الإقراض، ورفض اتخاذ قرار حاسم فيما يتعلق بالديون الفاسدة، هما أكبر عناوين التفريط في السيادة الوطنية؟
- الحاكم بأمره يؤكد على استقلالية القرار الوطني، لكنه يفرض على تونس مهاما تتجاوز طاقتها وتتعارض مع مصلحتها وموقعها الإقليمي، هو لعب دور الحارس الأمين للحدود الجنوبية لأوروبا في وجه هجرة القادمين من جنوب الصحراء، في نفس الوقت الذي لا نجد فيه أي فاعلية لمعنى استقلال القرار الوطني لوقف تدفق تلك الحشود على تونس، على ضعف امكانياتها ووهن قواها، بما يجعلها في موقع العجز عن قفل حدودها الجنوبية رغم أنّ المفروض أنها كذلك فعليا.. لكن صبّ الجهد كله في منع القادمين من العبور للضفة الشمالية للمتوسط استنزف قوى تونس. ما الذي يجبرنا على ذلك ؟
- الحاكم يقدم نفسه مناصرا للقضية الفلسطينية، ويعتبر التطبيع مع العدو الصهيوني خيانة عظمى. لكن مفهومه للخيانة العظمى لا ينسحب على قيام الجيش التونسي بمناورات مع جيش العدو الأمريكي، أكبر داعم للصهيونية والمزوّد الأساسي لجيش الكيان بالأسلحة التي يستخدمها في حرب الابادة التي يشنّها على غزة منذ سنة ونصف. ولا يجد غضاضة في التنكر للمبدأ الذي طالما تغنى به “ليس تطبيعا بل خيانة عظمى”، فرفض سنّ قانون يعطي المبدأ فاعليته الملزمة والرادعة قانونا، وضَيّع على نفسه وعلينا جميعا القيام بحركة عظيمة في اتجاه الانتصار للقضية الفلسطينية بفعل رمزي فائق الأهمية، هو المساواة بين الاعتراف بإسرائيل والقيام بفعل جنائي من الدرجة الأولى.
- الحاكم يقدم نفسه مناصر ا للفقراء وداعما للفئات الشعبية المسحوقة، لكن السياسات المتبعة لا تخدم سوى البورجوازية، وتغرف من معين مدارس الليبرالية المتوحشة التي تجوّع الشعوب وتقوم على مهام تفقيرها لحساب الأقلية الفاسدة.
- الحاكم يدين السياسات الاحتكارية التي أدّت للغلاء الكاسح في مختلف المواد المعيشية. ويتوعد بمعاقبة المحتكرين. لكنه ينظر بعين لا ترى لتوطّد نفوذ كمشة من العائلات التي توارثت السيطرة على أغلب قطاعات الاقتصاد، ومثّلت بذلك أكثر صور الاحتكار للنفوذ والثروة وأشدّها توحشّا. ولا يفعل شيئا لإلجام روح الافتراس التي تتعامل بها البنوك التي تحقق عائدات فلكية من سلب الناس أموالهم وابتزازهم بالقروض ذات الفوائد المرعبة.
- مصادر السلطة وأبواقها تؤكد أن جزءا من المؤامرة تمثل في القيام بعمليات احتكار على نحو موسع، بهدف إحداث حالة شحّ عامّة في أغلب المواد في الأسواق، تفضي لتعفين الوضع الاجتماعي وحصول فوضى كبيرة تعرقل مضيّ الرئيس بمشروعه.. لكن تلك المصادر تصمت صمتا مطبقا حيال حقيقة أنه حتى بعد انكشاف المؤامرة والقبض على المتآمرين، ظلّ الشح والندرة على حالهما.. ومازال المشروع يراوح مكانه. فلحدّ الآن لا وجود لزيت أو لسكّر.. ومن الواضح أنّ تلك كانت مجرد ذريعة استخدمتها السلطة لتصفية خصومها. وبعد استيفاء مهامها علينا نسيان، أو نحن مجبرون على نسيان، جميع هذه الترهات وتقبل واقع شحّ المواد على أنه جزء من حالة الفقر العامة وأمر طبيعي لا مهرب منه. تماما مثل حصّة البن التي لا يعرف أحد مقدارها في دولة الأخ الأكبر.
ست سنوات انقضت على بلوغ قيس سعيد مقعد الرئاسة، منها خمس حكم فردي مطلق، مارس خلالها سياسة تصفية الحساب مع كل من شاءت له تقديراته الحكم عليه بأنه “خائن”، من أهل اليمين وأهل اليسار، من المنخرطين في شبكات التآمر التي يتخيّلها. وذرى أثنائها رياحا كثيرة، لم يجلب شيئا منها خصبا ولا رفاها للتونسيين، ولم يحقق إنجازا واحدا جديرا بالذكر، ولا حرّك واقعنا قيد خطوة، بعيدا عن المستنقع الذي نتخبط فيه منذ عقود البورقيبية وما أورثته من أمراض ولوثات في الجسد التونسي الهش. هذه السنوات تبدو أكثر من كافية، لا فحسب للحكم نهائيا على “مشروع” قيس سعيد الذي يحمل في بنيته عوامل انهياره، لكثرة ما فيه من خور واختلالات وتناقضات ولا معقولية. ولا للحسم أيضا في الحكم الفردي والدمار الذي يأخذنا نحوه انفراد شخص واحد بالقرار، بل كانت المدة اللاّزمة ليحسم البشر في أمر مجموعة الأجهزة التي يتشكّل منها كيان الدولة، التي عرّى قيس سعيد، ربما دون قصد أو وعي منه، ارتباطها العضوي بالبورجوازية المتصلة برأس المال. ليتضح أن الكمبرادوريات، التي تمثّل الفيروس الناخر والمدمّر لجميع قطاعات الإنتاج المحلي، هي التي تُملي على أجهزة الدولة ما تفعل. وهي الماسك الفعلي بالقرار، وبالتالي لا يغدو لتأكيدات قيس سعيد أنه يقف مع النبض الشعبي ويمتثل للإرادة الشعبية أي معنى أو دلالة، طالما هو يقف على رأس الجهاز الذي عند كل مرة يعود فيها لحقيقته ويمارس مهامه الأصلية، يتضح أنه العدو اللدود لكافة ما زعم قيس سعيد التبشير به من آمال في المساواة والعدالة والرفاه، وعليه أن يعيش الدور الذي يقتضيه منه اعتماده منهج ” التفكير المزدوج”، بين كونه ممثل السيستام ورأسه الضارب، وبين كونه في نفس الوقت ممثل ” الانتي سيستام”. الذيل الذي يتضارب مع الرأس، فيذهب به العبث لحدّ أن يسأل، وهو على رأس الدولة : ” أين هي الدولة؟ وأين هم المسؤولين؟” قد لا يملك قيس سعيد صراحة بورقيبة، ليرد على السؤال بالقول ” الدولة هي أنا” رغم أن بورقيبة نفخ في ذاته أكثر مما ينبغي، ولم يع أن الدولة هي تحالف القوى المالكة للثروة الاقتصادية، أي حرفيا ” أهل الحل والعقد”، بكافة معاني الحل والعقد المادية والمعنوية.
لكن ادراك قيس سعيد لحقيقة الدولة وطبيعة مهامها، لن يزيده إلا وعيا بشقاء وضعه المزدوج. فيصير اعتماد التفكير المزدوج، لا طريقة للتغطية على فشل السياسة، بل للحفاظ على كيان الدولة نفسه، بطبيعته التي أسلفنا وصفها. ويذهب هباء في خضم هذا التصارع العبثي بين رأس السيستام وذيله، كل أمل في حياة حرة كريمة، قد يكون راود يوما الجموع المخدوعة بدور اجتماعي تحرّري للدولة.
……………………………….
“أهل الحل والعقد” مثلما يعرفها المفكر الدكتور رضا كارم ، المختص في دراسات “علم الرجولة”، الذي هو من أوائل من استخدموا هذا المصطلح على نحو موسع في كتاباته :
- هي جماعة من أكابر القوم تتعلق بالبلاط وتهيمن على التجارة والحرف الكبرى في البلاد الإسلامية. ويعود نسب أفرادها إلى قبائل ذات نفوذ تقليدي واسع، كما أنها جزء من حملات السلطة. يستعمل المفهوم اليوم للتدليل على البورجوازية التونسية التي ارتبطت تاريخيا بالسلطة واستفادت من قربها منها ومن قوانينها التي تحمي احتكاراتها لقطاعات إنتاجية وتجارية بعينها.
إن الآراء المذكورة في هذه المقالة لا تعبّر بالضرورة عن رأي إنحياز وإنما تعبّر عن رأي صاحبها حصراً.