التنظّم الفلّاحي: وعي الضرورة

14/05/2024
التنظم الفلاحي: وعي الضرورة

عندما شق المد الثوري عباب البلاد التونسية، أواخر سنة 2010 وأوائل ما بعدها، أرسى في شوارع العاصمة، أين انقضت أولى محطات الانتفاضة، التي أوقعت برأس النظام. وعلى الرغم من أن شوارع المدن، خاصة كُبْرياتها ديمغرافيا واقتصاديا، قد غصّت بالمتظاهرين، فإن جذور الرفض الشعبي لنظام دولة الاستقلال ضاربة في العمق الريفي للبلاد. فعلاوة على كون الشرارة الأولى قد قدحت في سيدي بوزيد، ذات الأغلبية الريفية، حيث يشتغل نصف السكان النشطين في القطاع الفلاحي، الذي يمتد على حوالي ثلثي مساحة الولاية، فإن محمد البوعزيزي، نفسه، كان بائعا متجولا للغلال قد فَقد في الأصل أرض عائلته جراء ضغط الديون البنكية واحتداد المنافسة مع المستثمرين التغيُّبيّين الذين غزوا المنطقة بداية الألفينات1.

عرّى الحراك الثوري التونسي مسألة زراعية2 تم كنسها تحت بساط قانون 72 والإصلاحات الهيكلية فتطايرت غبارا، عندما زحزحته جحافل الفلّاحة والعملة الزراعيين/ات معدومي/ات الأرض وجيوش البطّالة، ممن لفظهم قطاع الفلاحة، وما قدرت القطاعات الأخرى على امتصاصهم، فتراصّ من نزح منهم، في أحياء شعبية، طلبا لمهن هشة، بلا ضماناتِ استمرارٍ أو تطورٍ. في خضم الحراك الثوري العام، طفق أهل الريف يسترجعون الأراضي الفلاحية، التي فوّتت فيها الدولة لمستثمرين خواص يستنزفون مواردها ويستغلون مشتغليها ويقوّضون قيمتها، بتصدير المحاصيل وحرمان المنتجين وذويهم من ثمارها.

استرجع الفلّاحة التوانسة في الفترة بين 2011 و2013 قرابة 100 ضيعة فلاحية3 تمسح ما يناهز 1000 هكتار4. كانت الضيعات التي تُدار بعقود شركات الإحياء والتنمية الفلاحية (SMVDA) ساحة معركة الفلّاحة مع المستثمرين الخواص من جهة، وسياسات الدولة التي فرّطت في الأراضي الدولية لهؤلاء من جهة أخرى، فلا تم استغلالها عموميا ولا تم توزيعها على السكان. احتج المستحوذون على إهمال المستثمرين للأراضي وسوء استغلالهم لها وفساد عقودهم.

ففي غنوش من ولاية قابس، قام حوالي 600 فلّاح بدون أرض باستصلاح ألف هكتار من السباخ القاحلة حتى صاروا يوفرون أغلب حاجيات سكان المنطقة من الخضروات5 . أما في نصر الله من ولاية القيروان، فقد تصادم القوم مع مستثمر يستغل 2700 هكتار فقضى على تنوع إنتاجها النباتي والحيواني جاعلا منها غابة للزيتون. وعند التثبت، تبين أن هذا المستثمر ليس سوى رئيس غرفة تصدير زيت الزيتون عدا كونه مورّدا للزيوت النباتية.6 شمالا في منطقة الأقصاب من ولاية سليانة، اعتصم الفلّاحة بدون أرض والعملة الزراعيون/ات بضيعة هناك، تعاقب على استغلالها مستثمرون خواص شتى منذ 1992. إلى أن قرر آخر مستثمر لها، سنة 2020، طرد 22 عاملا منها، دون الاكتراث ببنود كراس شروط الاستغلال، المتعلقة بالطاقة التشغيلية وحقوق العملة، وفق عقود شركات الإحياء والتنمية الفلاحية7. ولعل أسطع مثال على نضال الفلّاحة من أجل استرداد الأراضي، ملحمة جمنة التي استرجع فيها الأهالي هنشير المعمّر/ستيل الذي شهد قرنا كاملا من الانتزاع الاستعماري والدولاني منذ أن وضع المُعمّر الفرنسي يده عليه إلى أن تسلمته الدولة المستقلة فمنحته للشركة التونسية لصناعة الحليب (STIL) ثم فوّتت فيه للمستثمرين الخواص، بغاية الإحياء والتنمية، حتى تمكن منه أخيرا ناس جمنة أياما قبل هروب رأس النظام8.

ليس غريبا على الفلّاحة التوانسة أن يفتكوا حقهم في النفاذ إلى أهم وسيلة إنتاجٍ وأولها في تاريخ النشاط الاقتصادي البشري. فأنصار علي بن غذاهم ما انفكّوا يفتكّون الأراضي من كبار المُلّاك الجائرين عند صراعهم مع الباي ومحلّته. كما أن حرب التحرير الوطني كانت بالأساس حرب تحرير الأرض من استعمار زراعي9. وهاهي جذوة النضال مازات متأججة، إذ لا يزال الإرث الثوري الفلّاحي نابضا، مادام التحرش الرأسمالي قائما من خلال محاولاته الدائمة كي يقضي على الفلّاحة، بضمّهم داخل جاروشة المُراكمة.

انقضى عقد منذ اندلاع حراك 2010-2011 الثوري، لم تكفّ فيه الشوارع التونسية عن التعبير عن غضبها من مآلات ما سقط من أجله الشهداء والجرحى. فكانت سنة 2021، منذ مطلعها، منذرة بتحركات اجتماعية في العديد من مناطق البلاد بلغ عددها في شهريْ جانفي وفيفري فقط ما يناهز 3000 تحرك10. لم تغب الأرياف عن الساحة إذ عبّرت بدورها عن غضبها من سياسات الخوصصة التي رمت بالفلّاحة في مواجهة عارية الظهر مع رأس المال الاحتكاري العالمي والمحلي فاحتجوا على غلاء أسعار المدخلات الفلاحية وتقهقر دور الدولة في دعم كل ما يتعلق بالنفاذ إلى الأرض والموارد وبالحماية من تغوّل السوق. ففي الثلاثية الأولى من سنة 2021، تم تسجيل 170 احتجاجا ذي علاقة بالقطاع الفلاحي في مختلف أرجاء البلاد11.

انتفض منتجو الألبان بقرية أولاد جاب الله من ولاية المهدية ضد الزيادة في أسعار علف الأبقار. وأغلق فلّاحة باجة الطريق أمام مزوّدي الأسمدة الذين يُحابون كبار المُلّاك. وهاج أهالي هنشير العتيلات بقبلي لانقطاع مياه الري التي استنزفتها الواحات التصديرية المحاذية. كما ناهض سكان منزل بوزيان والمكناسي، ذوي الإرث الثوري الحديث والسحيق، استعمار أراضيهم من قبل مستثمرين تونسيين وأجانب12. أفرز هذا الوضع العام حاجة مُلحّة لدى الفلّاحة كي يتنظموا من أجل مقارعة من عاداهم طبقيا فتم تأسيس التنسيقيات المحلية لصغار الفلاحين في العديد من بؤر الانتفاض، هذا عدا عن المحادثات الحثيثة بينها من أجل تأسيس تنسيقية وطنية شاملة.

لسائل أن يسأل لمَ التجأ الفلّاحة التوانسة إلى خلق وعاء تنظيمي جديد في بلد ذي تاريخ نقابي ثري. إذ تعود أولى التنظيمات التي تُعنى بالشأن الفلاحي في البلاد التونسية إلى سنة 1920، حين تم تأسيس الحجرة الشورية الأهلية للمصالح الفلاحية بشمال المملكة التونسية، التي شملت كبار الفلاحين بجهات الشمال، وكان دورها محصورا في الاستشارات التقنية والوساطة بين الفلاحين التونسيين والمعمّرين الفرنسيين. تتالت بعدها التنظيمات، التي مثّل بعضها تواصلا بينها والبعض الآخر قطيعة، إلى أن تم تأسيس الاتحاد العام للفلاحة التونسية سنة 1949، في محاولة لِلَمّ شمل الفلاحين، بُغية الانخراط في الحركة الوطنية.

لم يسلم اتحاد الفلاحة من الانقسام الذي طرأ خلال الصراع اليوسفي-البورقيبي، والذي انقضى بغلبة الشق الأخير، فتم اتخاذ تسمية الاتحاد التونسي للمزارعين التونسيين، الذي كان ممثلا في المجلس القومي التأسيسي سنة 1956، ضمن تحالف الجبهة الوطنية، التي ضمت معه الحزب الحر الدستوري الجديد والاتحاد العام التونسي للشغل والاتحاد التونسي للصناعة والتجارة. ثم استقرت تسمية المنظمة سنة 1992 على الاتحاد التونسي للفلاحة والصيد البحري أو ما يُعرف دارجا باتحاد الفلاحين (UTAP).


ثم في سنة 2011، انشق جزء من منخرطي اتحاد الفلاحين فأسسوا نقابة الفلاحين التونسيين(SYNAGRI). لم تحدد هذه المنظمة المستحدثة فئة منظوريها الذين تدافع عنهم فأصبحت مرتعا للفلاحين المتوسطين والكبار الذين يحمون مصالحهم ضد التغول البيروقراطي لاتحاد الفلّاحين بينما حافظوا على اعتماد نمط الإنتاج الفلاحي التصديري والمرتبط عضويا برأس المال المالي الاحتكاري المُعوْلم13.

في ظل غياب التمثيلية الطبقية، التجأ الفلّاحة التوانسة إلى الأخذ بزمام مصيرهم بأيديهم. فقد أبدى الفلّاحة المحتجون سنة 2021 امتعاضا كبيرا من اتحاد الفلاحين الذي غاب عن تحركاتهم وتجاهل مطالبهم كما أن عديد الاتهامات بالفساد قد حامت حول قيادته التي كانت في علاقة وثيقة مع الحزب الحاكم من جهة ومع كبار الفلاحين ومُلّاك الأراضي وأصحاب الشركات الفلاحية من جهة أخرى.

تثير هذه النزعة إلى التنظم المستقل عن المنظمات الكلاسيكية بعض الملاحظات. أولا، أضحت وتيرة التمايز الطبقي بين الفلّاحين في تصاعد حتى صارت الهوة بين المنتجين/ات الصغار والعملة الزراعيين/ات من جهة، والمُلّاك الكبار والمستثمرين الخواص من جهة أخرى عميقة جدا. وُسع هذه الفجوة مكّن الفلّاحة من الوعي بأنفسهم كطبقة في ذاتها مما دفعهم إلى التنظم كطبقة من أجل ذاتها. ثانيا، أدى تدجين السلطة لاتحاد الفلاحين إلى تحويله إلى مُدافع عن خياراتها السياسية المنحازة لصالح الفلاحين الأثرياء وكبار المُلّاك. جاء ذلك على حساب قوى الإنتاج، من استغلال قاسٍ لليد العاملة الفلاحية واستنزاف فاحش للموارد الطبيعية، مما يُظهر خللا هيكليا في النشاط النقابي في تونس. فبينما لعب الاتحاد العام التونسي للشغل دورا هاما في معارضة سياسات الدولة المعادية للطبقة الشغيلة، وإن شهد ذلك مدا وجزرا وتذبذبا، ظلت النقابات الأخرى في خدمة رأس المال. تأسست النقابات الثلاث الكبرى، اتحاد الشغل واتحاد الفلاحين ومنظمة الأعراف، في سياق الدفاع عن منظوريهم من وطأة الاستعمار فكان التناقض الرئيسي واضحا في معنى التحرر الوطني، بينما كان التناقض الطبقي مؤجلا. ثم في بداية بناء دولة الاستقلال، برز التضادد بين برجوازية الدولة الناشئتيْن (أي البرجوازية والدولة) والقوى العاملة في الظهور شيئا فشيئا. ونظرا لتماهي اتحاد الفلاحة ومنظمة الأعراف مع السلطة، غزتهما الطبقات الدافعة نحو والمتمعشة من السياسات التي أخذت منحى ليبراليا متصاعدا منذ سبعينات القرن الماضي. وكما هو الحال في بلدان أطراف رأس المال العالمي، طغت البرجوازية الكمبرادورية، التي لا تترسخ ولا تعيد إنتاج نفسها سوى عبر امتهان الوكالة في مسار التراكم على الصعيد العالمي.

على هذا الأساس، صار التحالف بين الدولة وأذرعها النقابية، فتجادل التناقضان الوطني والطبقي داخل وعاء التبادل غير المتكافئ المرتكز على تحويل القيمة عبر الضغط على أسعار مستلزمات الإنتاج: الموارد والأجور. وعليه تباعا، كان ومازال اتحاد الفلاحين مُدافعا على الاستثمار الخاص في القطاع ومشجعا على الفلاحة التصديرية ولا يعير اهتماما بشؤون صغار المنتجين/ات والعملة الزراعيين/ات، في تماه تام مع سياسات الدولة.

تبيّنّا في هذا المقال مسارات تجذّر النضال الفلّاحي من أجل استعادة وسيلة الإنتاج الأهم في القطاع الفلاحي. تمثل تحركات الفلّاحة وغضبهم منتهى تمظهرات تأزم الوضعية الفلاحية والغذائية مما يستوجب النظر في أصل الداء: انتزاع الأراضي من تحت يد المنتجين/ات الفعليين/ات للغذاء بغاية تراكم رأس المال.


نتناول في المقال الموالي إذن تاريخ تغلغل وتغوّل رأس المال في الريف التونسي عبر تقفي مسارات التراكم الأولي لرأس المال.


  1. Mathilde Fautras. Paysans Dans La Révolution: Un défi tunisien. Éditions Karthala et IRMC. Paris, Tunis, 2021. ↩︎
  2. هيثم صميدة-قاسمي، المسألة الزراعية في العالم وفي تونس، 12/05/2023 ↩︎
  3. Mohamed Elloumi. Les Terres Domaniales En Tunisie. Études Rurales, no. 192 (2013): 43–60. https://doi.org/10.4000/etudesrurales.9888. ↩︎
  4. Alia Gana. Aux origines rurales et agricoles de La Révolution Tunisienne. Maghreb – Machrek, no. 215 (2013): 57–80. https://doi.org/10.3917/machr.215.0057. ↩︎
  5.  وجدي مسلمي وعمر مرزوق، ڨابس: فلّاحو غنّوش مُهدّدون بالطرد من الأراضي التي استصلحوها، انحياز، 18/05/2023 ↩︎
  6.  ياسين النابلي، احتجاجات الفلاحين في تونس: الأرض والعلف والغذاء، المفكرة القانونية، 25/03/2022 ↩︎
  7. انتصار قصارة، الفلاحون بمعتمدية الاقصاب بسليانة يعتصمون تحت شعار “الأرض لمن يفلحها”، مشكال، 15/04/2022 ↩︎
  8.  غسان بن خليفة، هنشير ستيل في جمنة: المصلحة العامّة قبل الربح الخاصّ، نواة، 11/07/2015 ↩︎
  9. هيثم صميدة-قاسمي، التاريخ الثوري للفلّاحة التوانسة، انحياز، 07/05/2023 ↩︎
  10. Tebini, Maram. Les Protestations Sous Le Filtre Du Contrôle “Moral”: Retour Sur Les Événements de l’hiver 2021 En Tunisie. FTDES, Oct. 2022, https://ftdes.net/les-protestations-sous-le-filtre-du-controle-moral-retour-sur-les-evenements-de-lhiver-2021-en-tunisie/. ↩︎
  11. أرقام المرصد الاجتماعي التونسي ↩︎
  12. هيثم صميدة-قاسمي وروكسان دفدار (2021)، نحو نظام فلاحي وغذائي صامد ومستدام وشامل، الجمعية التونسية للزراعة المستدامة والتحالف من أجل السيادة الغذائية في إفريقيا: https://drive.google.com/file/d/16lQNI6_-EMxopALzE-CNubseeN_Tpapu/view?usp=drive_link ↩︎
  13. Jouili, Mustapha, Safa Mkacher, and Abdelhalim Guesmi. “L’AGRICULTURE FAMILIALE A PETITE ÉCHELLE AU PROCHE-ORIENT ET AFRIQUE DU NORD PAYS FOCUS Tunisie.” Organisation des Nations unies pour l’alimentation et l’agriculture, Center de Coopération Internationale en Recherche Agronomique pour le Développment and International Centre for Advanced Mediterranean Agronomic Studies, 2017. ↩︎

مقالات ذات صلة

  • تحقيق حول أزمة زيت الزيتون والبطاطا: صعوبات موسميّة وأسباب هيكلية

    لم تخلُ المواسم الفلاحيّة السّابقة في تونس من صعوبات ومشاكل طالت المحاصيل والفلّاحين تارةً والأسعار تارةً أخرى. إلّا أنّ هذا…

    اقتصاد سياسي

    blank
  • مقابلة | الباحث جون بوارس: “السيادة الغذائية نواة بديل جذري من الرأسمالية”

    على هامش لقاء تكويني في الاقتصاد السياسي، من تنظيم شبكة سيادة والمعهد العابر للقوميات والمرصد التونسي للمياه "نوماد 08"، التقى…

    اقتصاد سياسي

    Articel Jean Bourass
  • تأجيل جلسة محاكمة فلاحي البحيرين بمعتمدية برقو إلى 11 ديسمبر

    قررت محكمة الاستئناف في سليانة، اليوم الأربعاء، تأجيل جلسة محاكمة فلاحي منطقة البحيرين-معتمدية برقو من ولاية سليانة إلى 11 ديسمبر…

    الأخبار

    blank
  • شركات تعليب المياه: اعتداء مزدوج على الطبيعة والبشر

    الفرق شاسع  بين تبريد الماء في إناء حديدي أو فخاري أو بلوري، وبين تبريده في قوارير البلاستيك.وإنتاج وعاء  فخاري أو…

    رأي

    شركات تعليب المياه: اعتداء مزدوج على الطبيعة والبشر