التراكم الأولي لرأس المال في تونس: القرون الخمس الأخيرة

20/05/2024
Screenshot 2024 05 20 194129

عند نقده للاقتصاد السياسي، خصص كارل ماركس آخر جزء من المجلد الأول لرأس المال لفهم نشأة نمط الإنتاج الرأسمالي وذلك بالتحقق من ‘سر التراكم الأولي’[1]. انخرط ماركس في جدال أفكار من سبقوه من المنظرين الاقتصاديين البريطانيين فركز على دراسة التاريخ الانقليزي بكونه يمثل أكثر حالات التطور في عملية الانتقال إلى الرأسمالية. تفحص ماركس قوانين التسييج (Enclosure) التي حولت ملكية الأراضي المشاع إلى ملكية خاصة، بسلطة التاج البريطاني في مرحلة أولى، ثم بترسيخها من قبل البرلمان بتشريعات متتالية في مراحل لاحقة.

يتلخص مفهوم التراكم الأولي لرأس المال في عملية فصل المنتجين عن وسائل إنتاجهم عبر تركيز الملكية الخاصة لهذه الوسائل من قبل مُلّاك لا يمارسون بالضرورة النشاط الفلاحي، أو بصيغة أخرى، “يساهمون” في عملية الإنتاج برأس المال لا قوة العمل. هكذا صارت عملية الإنتاج بمثابة خلق المال من المال عبر الاستثمار، بدل الإنتاج من أجل تلبية حاجيات استهلاكية مطلوبة سلفا. هذا الانتقال في عملية الإنتاج يحدد أهم خصائص نمط الإنتاج الرأسمالي الذي يتسيّد فيه الإنتاج السلعي، أي تغليب القيمة التبادلية للمنتجات على قيمتها الاستعمالية.

يتحول إذن المنتجون إلى عمال مأجورين يقع امتصاص فائض قيمة عملهم من قبل مالك وسيلة الإنتاج الذي يرمي لهم بالأدنى الذي يبقيهم على قيد الحياة، من أجل الاستمرار في الإنتاج. وكان هذا الفصل للفلّاحة، أي المنتجين الفعليين، عن أراضيهم، أي وسائل إنتاجهم، ذا طابع قسري[2] بحكم التشريعات التي أخذت مظهر “القانون الذي أصبح وسيلة لسرقة أراضي الناس”[3].

تجدر الإشارة هنا إلى تهافت التحليل الذي يرى بأن المرور إلى الملكية الخاصة للأرض قد كان “عفويا”، أي بوسائل اقتصادية، عبر التنافس الحُرّ بين الفلّاحة، الذين يراكمون الثروة من خلال تطوير إنتاجهم، مما يُمكّنهم من زيادة ملكيتهم، بينما يضطر، من لم يقدر على ذلك، إلى بيع أرضه والاعتماد على قوة عمله، من أجل البقاء على قيد الحياة. تشير هذه النظرة إلى أن قوانين السوق “طبيعية” وأن المرور إلى الملكية الخاصة للأرض كان “تطوّريا مُحايدا”. بينما في الواقع، كان تدخل الطبقات المُهيمنة مُحدّدا لهذا المسار من خلال  أشكال غير اقتصادية متمثلة في القهر القانوني والعسكري[4].

من جهة أخرى، لا يعني نعت التراكم بـ”الأولي” أنه قد انقضى بعد التحول إلى نمط الإنتاج الرأسمالي. بل أنه مازال متواصلا ما دام الاستغلال من خلال العمل المأجور قائما[5] ومادامت عمليات تسييج الأراضي في العالم مستمرة[6] و”تسييجات” الملك العام، عبر خوصصة المرافق العمومية، بفعل السياسات النيوليبرالية، زاحفة[7]. بصفة عامة، مازال رأس المال يتراكم في ظل حكم العلاقات الإمبريالية في العالم[8].

نتناول، إذن، في هذا المقال، مسار(ات) التراكم الأولي لرأس المال في البلاد التونسية، عبر تبيان مكوناتها القسرية، المتمثلة في التشريعات القانونية والقهر العسكري الاستعماري والانخراط في علاقات التبادل غير المتكافئ على الصعيد العالمي.

تزامنت قوانين التسييج، التي سنّها البرلمان البريطاني في القرن السادس عشر، مع القوانين التي وضعها الحكم العثماني في الإيالة التونسية والتي حوّلت مُشاعات الأراضي الموات إلى ملكية خاصة للباي، أو ما أصبح يُعرف منذها بأراض البيليك[9]. أدى الاستيلاء على الأراضي الموات وجعلها ملكية خاصة إلى تحويلها إلى سلعة للتبادل، مما جعلها موضع مضاربة من جهة، ووجّه غايات استغلالها نحو التسليع المكثف لثمارها باتجاه الأسواق المدينية المحلية والعالمية من جهة أخرى.

لم تكن ملكية الأرض في الربوع التونسية خاضعة لصرامة الملكية الفردية الرأسمالية. فعلى الرغم من الوجود الفعلي لمفهوم المِلْك، الذي يكون في غالبيته الساحقة عائليا لا فرديا[10]، يُستغَلّ من أجل الكفاف وتتوارثه الأجيال مع نُدرة اللجوء إلى بيعه، فإن أصنافا من الملكيات الأخرى كانت ما تزال دارجة، مثل اشتراك العروش في الأرض وتحبيس الزوايا. كانت القوانين العقارية في تونس قبل الاستعمار مستقاة بالكامل من التشريعات الإسلامية التي تراكمت عبر الزمان والمجال لما يقارب ألف سنة. ومنذ بداية توسع الدولة العربية الإسلامية حتى أواسط القرن السادس عشر، لم تكن الفلاحة المصدر الأساسي للقيمة حيث أن التجارة طويلة المدى في البر والبحر قد تسيدت الاقتصاد[11]، فكان الإنتاج الفلاحي موجها بالأساس نحو تحقيق الحاجيات الذاتية لمستهلكين مباشرين محليين. انجر عن ذلك بطء في تطور قوانين الملكية الخاصة للأراضي حيث تُرك مجملها شياعا للرُّحّل والرعاة.

كانت توضع أغلب الأراضي التي لا تقع تحت طائل المِلْك العائلي أو تحبيس الزوايا أو استغلال العروش في خانة الأراضي المَوات. وتعتبر مواتا، الأرض التي لا يملكها أحد ولا يستغلها بشر وتُستثنى منها الطرق ومجاري المياه والمقابر والمراعي ونحوها. حسب التشريع الإسلامي، تصبح الأرض الموات مِلكا فقط لمن يُحييها، بمعنى أن العمل هو المُحدد الوحيد لملكية هذه الأراضي.

ولكن بداية من القرن السادس عشر، بدأت موازين القوى في البحر الأبيض المتوسط بالتحول إثر صعود دول أوروبا الغربية على الساحة الجيوسياسية بعد تحكمها في مسالك تجارية بحرية جديدة تغنيها عن دفع رسوم العبور للدولة العثمانية حين المرور نحو الشرق، كما أنها استفادت من مراكمة الثروات التي نهبتها من الأمريكيتين وشبه القارة الهندية. تزامن ذلك مع سيطرة الامبراطورية العثمانية على البلاد التونسية، باحثة عن موارد تعوض بها خسائر فقدان وزنها. هنا تم الالتفات إلى المصادر الداخلية لخلق الثروة: الإنتاج الفلاحي.

أدخل العثمانيون قوانين عقارية جديدة تُحوّل ملكية الأراضي الموات إلى الباي، فصار متحكما في استغلالها وبيعها وكرائها ومنحها لمن أراد. شملت القوانين الجديدة البنية السياسية قاطبة فلم تستثن حتى الجانب اللغوي، إذ تحولت تسمية هذه الأراضي من موات إلى “بيليك” ومرّ مفهوم الهنشير من معنى الأرض الجرداء إلى معنى الأرض الفلاحية المُستغَلّة والمنتجة[12]. هكذا لم تعد الملكية مضمونة بالإحياء، أي بالعمل، ولكنها صارت موضوع استثمار ومضاربة ومراكمة فتسلّعت في ذاتها دون اعتبار ما تنتجه. ونظرا لضياع قيمة الأرض عبر تبادلها دون التعويل على إنتاجها الذي يحقق فائضا، بإمكانه تطوير القطاعات الأخرى، تخلَّف الاقتصاد العثماني بينما تطور نظيره الأوروبي حتى أصبحت الإيالة التونسية خاضعة للتبادل غير المتكافئ الذي وضعها في موقع تصدير المنتجات الفلاحية وتوريد البضائع المُصنّعة.

ففي بداية القرن التاسع عشر مثلا، وعلى إثر حملة إكسماوث (Exmouth) على طرابلس وتونس والجزائر، بقيادة العسكرية البحرية البريطانية والهولندية، تم فرض قانون ضد القرصنة على إيالات شمال إفريقيا، مما قلص من عائدات هذا النشاط. زد على ذلك، أخضعت القوى الأوروبية بايات تونس إلى قرار تخفيض ضرائب التوريد على بضائعها إلى مستوى 3% مما أدى إلى رفع ضرائب تصدير البضائع التونسية إلى حد 25% لتعويض عجز الخزينة بموارد مالية داخلية.

هكذا تم إغراق الأسواق التونسية بالبضائع الأجنبية كأسلوب آخر من أساليب التراكم الأولي لرأس المال، المتمثل في غزو الأسواق وتقويض الإنتاج المحلي[13]، فتخلفت بذلك الصناعات التقليدية وتأخرت معها قوى الإنتاج – وعلى رأسها اليد العاملة التي صارت تعمل بالمناولة حسب طلبات الأسواق العالمية. أدى هذا الوضع العام بالتالي إلى إرساء أسس تبعية الاقتصاد التونسي لحاجيات السوق الأوروبية مثلما تجلى ذلك مثلا بين سنتيْ 1832 و1835 لمّا ارتفعت نسب تصدير زيت الزيتون بـ62%، تم توجيهها لصناعة صابون مرسيليا في فرنسا[14].

تعزز هذا المسار في تونس بحلول الاستعمار الفرنسي حيث أن السلطات الغازية قد فرضت، منذ قدومها، قانونا عقاريا واحدا يضمن تحديد مسارب تراكم رأس المال تحت لحاف الملكية الخاصة للأرض. عند حلول الاستعمار الفرنسي بالبلاد التونسية، وقف المقيمون العامون حائرين أمام تعدد أنواع ملكية الأرض من جهة واستفحال ظاهرة أرض البيليك التي تقف حاجزا أمام الملكية الخاصة الفردية من جهة أخرى، فقررت السلطات الاستعمارية توحيدها تحت قانون واحد للعقارات بعد أربع سنوات فقط من توقيع معاهدة باردو، وذلك في الفاتح من جويلية 1885.

برّر الوزير المقيم، بول كامبون، في وثيقة حول القانون العقاري، صادرة عن الإدارة العامة للأشغال العمومية، الحاجة إلى قانون عقاري في المستعمرة التونسية بحجة تأمين تبادل الأراضي وضمان القروض وفتح المجال أمام رأس المال الفرنسي للاستثمار بطريقة سلمية “تُقوّي الجمهورية وتُعلي إسم فرنسا”[15]. كان القانون العقاري المستحدث في البلاد التونسية مستلهما من القانون المدني الفرنسي وسجلات الأراضي الألمانية والقانون البلجيكي وقانون تورنس (Act Torrens) الذي وضعته السلطات الاستعمارية البريطانية في أستراليا سنة 1848 والقانون العقاري الذي سنته فرنسا في المستعمرة الجزائرية سنة 1873.

فرض قانون 1885 تسجيل العقارات عبر منحها شخصية مستقلة عن أسماء مُلّاكها من أفراد وعائلات، ماحية بذلك تاريخها، مما جعل شهادة ملكية الأرض مشابهة لسهم في شركة، يُباع ويُشترى[16]. هكذا بدأ تفكك المِلكيات المشاعية بين القبائل والمِلكيات المشتركة بين العائلات وتم ترسيخ المِلكية الخاصة الفردية للأرض.

بالتوازي مع ترسيخ الملكية الخاصة الفردية للأرض أو نتيجة لها، عملت السلطات الاستعمارية على تعزيز منوال الزراعة واسعة النطاق من أجل تكثيف الإنتاج الموجه للتصدير فعمدت إلى توسيع نفوذها من خلال تملّك الأراضي من جهتها أيضا، ونعني هنا ما عُرِف بالملك الخاص للدولة، فضمّت، سنة 1901، الأراضي الاشتراكية تحت ملك الدولة تاركة للعروش حق الاستعمال فقط. كما أسست، سنة 1924، مجال مجردة، في أكثر مناطق البلاد رطوبة، في تواصل تاريخي مع مفاهيم الهنشير والبيليك فقط باختلاف المفردات التي تحولت إلى ‘دومان’ (domaine).

مر مسار استرجاع الأراضي التونسية من عند المعمّرين الفرنسيين بجملة من المراحل التي حُكمت ببروتوكولات بين الدولة التونسية المستقلة حديثا والدولة الفرنسية[17]. ففي سياق مسار الاستقلال واشتعال الثورة الجزائرية المتاخمة للحدود الغربية للبلاد التونسية، هجر العديد من المعمّرين الأراضي التي كانوا يستحوذون عليها. ولكن عند محاولة السلطات التونسية استرجاعها، تدخلت الحكومة الفرنسية وفرضت تعويضات لرعاياها تم تسديدها من قبل حكومة الاستقلال بديون فرنسية. اختُتِم هذا المسار بالجلاء الزراعي سنة 1964، فتم تأميم جميع الأراضي المسترجعة وأراضي الحبوس، التي بلغت مساحتها معا 800 ألف هكتار، فأضحت تحت تصرف ديوان الأراضي الدولية، الذي تم تأسيسه سنة 1961 كمؤسسة عمومية.

انطلق بناء الدولة المستقلة عبر تبني الاشتراكية الدستورية والشروع في تطبيق مشروع التعاضديات الذي ارتكز على تجميع الأراضي من أجل تنمية ريفية تعوض بها الدولة الناشئة عن رؤوس الأموال الأجنبية التي فرّت إثر الاستقلال. اتخذ مسار تجميع الأراضي منحى عموديا، استهدف أراضي الفلّاحة بصغارهم ومتوسطيهم، وتجاوز عن أراضي كبار المُلّاك[18]. كما أن سياسات الضغط على أجور الموظفين، للحفاظ على الكتلة النقدية، كانت مرتكزة على تخفيض أسعار المنتجات الفلاحية على مستوى الإنتاج، بمعنى شراء المنتجات الفلاحية من عند الفلّاحة بأبخس الأسعار للمحافظة على انخفاض أسعارها للمستهلكين، أي أن استحداث الطبقة الوسطى المدينية التونسية كان على حساب المنتجين الفلاحيين في الريف[19]. إضافة إلى ذلك، تأتّى جزء من تمويلات التجربة التعاضدية من الضرائب التي كانت مُسلّطة بنسبة 72% على الطبقات الوسطى والدنيا[20]. أما على مستوى العلاقات الدولية، فقد تداينت الحكومة الاشتراكية الدستورية من الولايات المتحدة الأمريكية والبنك العالمي للتعمير والتنمية ما قارب 40% من إجمالي تمويلات المشروع[21]. للإشارة هنا، فإن التداين أيضا عماد من أعمدة تواصل التراكم الأولي لرأس المال على الصعيد العالمي[22].

لم تكن التجربة التعاضدية التي شهدتها البلاد التونسية في ستينات القرن الماضي سوى وسيلة من وسائل تراكم رأس المال عبر خلق طبقة ريفية من كبار ملاك الأراضي وطبقة مدينية من برجوازية الدولة – التي تحولت بسرعة البرق إلى طبقة كمبرادور[23].

بلغت مساحة الأراضي التي تمت هيكلتها صلب وحدات تعاضدية للإنتاج الفلاحي، في آخر أيام التجربة سنة 1969، قرابة 3.8 مليون هكتار، ذهب مجملها بيعا وكراء لمستثمرين خواص منذ بدايات سبعينات القرن الماضي، عند ارتماء الدولة التونسية في أحضان التقسيم العالمي للعمل، عبر تهميش القطاع الفلاحي، أي تعطيل تحقيق المسألة الزراعية، والتعويل على الصناعات المُصدِّرة والخدمات المُناوِلة[24]. تعمق مسار التراكم الأولي لرأس المال انطلاقا من الريف التونسي إذ أخذ منحى عالميا متصاعدا عندما تخلت الدولة عن وظائفها الحمائية منذ سبعينات القرن الماضي. أصبح الفلّاحة بالتالي في مواجهة دائمة وحادة مع رأس المال المالي الاحتكاري المُعوْلم المتغول في أريافنا بمعية رأس المال المحلي.

تواصل بالتالي مسار فصل المنتجين عن وسائل إنتاجهم فتحوّل من بقي في الريف من الفلّاحة إلى عَمَلة زراعيين/ات. وصار من نزح منهم إلى المدينة عَمَلةً في القطاعيْن الصناعي البدائي والخدماتي الهش. بينما تأرجح غيرهم في منزلة بين-بين، إما في العمل الفلاحي الموسمي أو في قطاعات موازية للاقتصاد الرسمي. تُعرّف هذه الفئة الأخيرة، التي ما انفكّت تتضخم في صفوف اليد العاملة النشيطة، بأنصاف البروليتاريا (semi-proletarians) التي تكاثرت سرطانيا في اقتصادات العالم الثالث جراء تعطّل المسألة الزراعية وتخلّف الانتقال الصناعي فعجز القطاعان عن امتصاص “فائض” اليد العاملة[25].

أتى قانون الاستثمار الفلاحي لسنة 1982 والذي تزامن مع المخطط الخماسي السادس (1982 – 1986) على أراض الدولة تفويتا وخوصصة. بينما تم إقرار قانون شركات الإحياء والتنمية الفلاحية (SMVDA) سنة 1983، فمرّت بموجبه أراض الدولة من الملكية العمومية إلى الملكية الخاصة بتعلّة تعزيز الإنتاجية الفلاحية. إثر ما يزيد عن أربعة عقود من استغلال الأراضي الدولية في إطار شركات الإحياء والتنمية، شهدت دائرة المحاسبات في تقريرها الصادر سنة 2018 بعقم هذا المنوال، حيث أن نصف الشركات قد أخلت بالتزاماتها في دفع معاليم كراء الأراضي وفي تحقيق أهدافها التنموية. كما أن نسب إنتاجيتها كانت منخفضة بالمقارنة مع غيرها من الضيعات، علاوة على عدم تحقيقها لنسب التشغيل التي تعهدت بها عند إنشائها. هذا دون التطرق إلى منوال الإنتاج الأحادي والاستنزافي الذي يتبناه المستثمرون الخواص صلب هذه الشركات[26]. من جهة أخرى، حامت العديد من شبهات محاباة السلطة لأصحاب شركات الإحياء والتنمية، بمعية إتحاد الفلاحين، حيث أنه في سنة 2016، أقر البرلمان قانونا لإعادة جدولة ديونها[27].

نتجت، عن كل ما سبق تبيانه، ظاهرتان تعكسان تعطّل تحقيق المسألة الزراعية جراء هذه الخيارات السياسية:

أولا، النزوح نحو المدن الكبرى والهجرة إلى ما وراء البحار بفعل طرْد الناس من أراضيهم دون توفير بدائل لتشغيلهم في القطاعات غير الفلاحية.

ثانيا، تأنيث العمل الفلاحي جراء حاجة رأس المال المتواصلة والجشعة إلى أزهد الأجور[28]. تمثل هذه النقطة الأخيرة، أي الضغط على الأجور، أحد أعمدة التراكم الأولي لرأس المال التي نشهدها في عصرنا الحالي والتي تتضح جليا في تمظهرات التبادل اللامتكافئ بين مراكز رأس المال وأطرافه[29].

ثم أتى مرسوم الشركات الأهلية سنة 2022 مُحمّلا برمزيات شتّى. إذ تزامن تاريخ إصداره مع ذكرى الاستقلال وتم توقيعه على الطاولة التي أُعلِن فوقها الجلاء الزراعي وتأميم الأراضي سنة 1964. كما تخللت نصًّه أيضا جملة من الإشارات إلى شعارات ثورة 2010-2011 وتم التعريج فيه على مفاهيم من نوع السيادة الشعبية والحق في النفاذ إلى الأرض بل أن السيادة الغذائية والاعتماد على الذات قد أٌدرِجتا أيضا. لكن شُحنة النص لم تُترجم في الواقع بعدُ، إذ أن ملف الأراضي الدولية مازال قيد ابتزاز شركات الإحياء والتنمية الفلاحية، كما أن ملف الأراضي الاشتراكية مازال مُعطّلا. علاوة على ذلك، لا تبدو في الأفق أي خطة شاملة تُعنى بمسألة إنتاج الغذاء انطلاقا من تحديد الحاجيات الأساسية، التي ما انفكت تشهد تذبذبات في التوزيع. هَب أن أزمة توفير المنتجات الغذائية  محكومة بالاحتكار وجشع التجار، أما آن الأوان لمؤسسات الدولة أن تمسك، عبر أذرعها الشعبية، بزمام أمور إنتاج غذاء قواها المنتجة؟ ألا تُحتّم الضرورة الواقعية أن يُعاد النظر في وضعية الدواوين المعنية بالإنتاج الفلاحي، من حبوب وعلف وزيوت وغيرها؟ ألا تفرض اللحظة التاريخية أن تُراجَع العلاقات التجارية الدولية والتوجه إلى مبادلات أكثر إنصافا واستقلالية؟

من العدمية ادعاء عجز القوانين أن تكون تقدمية في لحظات تاريخية معينة، لكن التغيير السياسي يبقى أعرجا، ما لم يقوَ عوده بإجراءات مادية تأتي على البنى الهيكلية للوضع القائم، وما لم يكن محميا شعبيا من قبل المنتجين، الذين يتملّكون مصائرهم وقرارهم، ومن قبل المستهلكين الذين يجنون ثمار التغيير ويدافعون عنه.

نتناول في المقال الموالي والأخير تصورا للإصلاح الزراعي.


[1] Karl Marx, Capital: A Critique of Political Economy Volume I Book One: The Process of Production of Capital. Moscow, USSR: Progress Publishers, 1887.

[2] Patnaik, Prabhat. “The Concept of Primitive Accumulation of Capital.” Marxist XXXIII, no. 4 (2017). https://cpim.org/sites/default/files/marxist/201704-marxist-primitive-capital-prabhat.pdf.

[3] Marx 1887, p510

[4] Patnaik, Prabhat, op. cit.

[5] Ian Angus, The Meaning of ‘So-Called Primitive Accumulation’, Monthly Review, 01/04/2023: https://monthlyreview.org/2023/04/01/the-meaning-of-so-called-primitive-accumulation/

[6] Ince, Onur Ulas. 2014. “Primitive Accumulation, New Enclosures, and G Lobal Land Grabs: A Theoretical Intervention.” Rural Sociology 79(1): 104–31. doi:10.1111/ruso.12025.

[7] علي القادري (2014)، التنمية العربية الممنوعة: ديناميات التراكم بحروب الهيمنة، مركز دراسات الوحدة العربية.

[8] Moyo, Sam, Paris Yeros, and Praveen Jha. “Imperialism and Primitive Accumulation: Notes on the New Scramble for Africa.” Agrarian South: Journal of Political Economy 1, no. 2 (2012): 181–203. https://doi.org/10.1177/227797601200100203.

[9] Hénia, Abdelhamid. “Les Terres Mortes de La Tunisie Utile et Les Nouvelles Stratégies Foncières à l’époque Moderne.” Revue Des Mondes Musulmans et de La Méditerranée 79, no. 80 (1996): 127–42.

[10] عبد الحميد هنية 2011، تونس العثمانية: بناء الدولة والمجال، تبر الزمان

[11] Amin, Samir. 1976. Unequal Development: An Essay on the Social Formations of Peripheral Capitalism. Hassocks, Sussex: Harvester Pr.

[12] Hénia, Abdelhamid. “Les Terres Mortes de La Tunisie Utile et Les Nouvelles Stratégies Foncières à l’époque Moderne.” Revue Des Mondes Musulmans et de La Méditerranée 79, no. 80 (1996): 127–42.

[13] Rosa Luxemburg, The Accumulation of Capital, Luxemburg Internet Archive, Marxists.org, 2003, 1913

[14] Khalifa Chater, Dépendance et mutations précoloniales : la Régence de Tunis de 1815 à 1857, Tunis, Faculté des sciences humaines et sociales de Tunis, 1984.

[15] Direction Générale des Travaux Publics. “Loi Foncière et Réglements Annexes.” Protectorat français – Gouvernement tunisien, 1909.

[16] Auzary-Schmaltz, Nada. “Le Régime Foncier Tunisien Origines et Évolution Après l’indépendance.” In Enjeux Fonciers et Environnementaux : Dialogues Afro-Indiens, Christoph Eberhard., 315–30. Institut Français de Pondichéry, 2008. https://books.openedition.org/ifp/3916?lang=e.

[17] عبد الله بن سعد، كيف السبيل لإعادة هيكلة الأراضي الدولية خدمة لجماهير الكادحين في الريف التونسي؟ الحوار المتمدن، 12/11/2015: https://www.ahewar.org/debat/show.art.asp?aid=492315

[18] هيثم صميدة-قاسمي، قراءة نقدية للتجربة التعاضدية في تونس، انحياز 14/05/2023: https://www.inhiyez.com/archives/5479

[19] Hafedh Sethom, Pouvoir urbain et paysannerie en Tunisie : qui sème le vent récolte la tempête, Cérès Production, 1992.

[20]  الهادي التيمومي، تونس 1956-1987، دار محمد علي الحامي، الطبعة الثانية 2008.

[21] نفس المصدر

[22] Sassen, Saskia. (2010). The return of primitive accumulation. 10.1017/CBO9780511778544.003.

[23] Samir Amin, Le Maghreb Moderne, Les Editions de Minuit, 1970

[24] وسيم العبيدي، الأراضي الفلاحية الدولية: قاطرة تنمية معطوبة لصالح ديناميات النهب والاستلاب، المفكرة القانونية تونس، 24/12/2021: https://legal-agenda.com/%D8%A7%D9%84%D8%A3%D8%B1%D8%A7%D8%B6%D9%8A-%D8%A7%D9%84%D9%81%D9%84%D8%A7%D8%AD%D9%8A%D8%A9-%D8%A7%D9%84%D8%AF%D9%88%D9%84%D9%8A%D8%A9-%D9%82%D8%A7%D8%B7%D8%B1%D8%A9-%D8%AA%D9%86%D9%85%D9%8A%D8%A9/

[25] Yeros, P. (2023). Generalized Semiproletarianization in Africa. The Indian Economic Journal, 71(1), 162-186. https://doi.org/10.1177/00194662221146639

[26] نفس المصدر

[27] Alia Gana and Marouan Taleb. “Mobilisations Foncières En Tunisie : Révélateur Des Paradoxes de l’après « révolution ».” Confluences Méditerranée, 2019, pp.31-46.

[28] هيثم صميدة-قاسمي، النساء الفلاحات التونسيات: التهميش المركب، عدسات جندرية، العدد 2، 2022/2023.

[29] Utsa Patnaik and Prabhat Patnaik, A Theory of Imperialism, Columbia University Press, 2016

مقالات ذات صلة

  • أي تعريف ممكن للنيوليبرالية!

    على الرغم من أن البعض يرى أن النيوليبرالية مازالت مصطلحًا ملتبسًا فقد جرى إستعمالها لفترة طويلة نسبيا كافية لكي تحقق…

    اقتصاد سياسي

    تصميم أمل الورثي
  • فيديو | انطلاق المؤتمر الوطني الخامس للحركات الاجتماعية

    افتتح المنتدى التونسي للحقوق الاقتصادية والاجتماعية، اليوم الجمعة، بقاعة فرحات حشاد بالمقر المركزي للاتحاد العام التونسي للشغل، فعاليات المؤتمر الوطني…

    الأخبار

    blank
  • أن تبيت في العراء أو أن تقتطع من لحمك: أزمة الكراء في العاصمة

    خلال رحلتي الشّخصيّة في البحث عن سكن في تونس العاصمة - نعم، هي رحلة لمن لا يعرف - وجدت أنّ…

    بلا حياد

    blank
  • فيديو | إحياءً لمئوية وفاة لينين: الوطد الاشتراكي ينظم ندوة أممية

    نظم الحزب الوطني الديمقراطي الاشتراكي يومي 16 و17 نوفمبر ندوة أممية في مسرح الحمراء بتونس العاصمة، إحياءً للذكرى المئوية لوفاة…

    الأخبار

    blank