“ليست السينما كهف أفلاطون، لأن صورها لا تقول الواقع، بل تقول قولا جديدًا عن الواقع…إن السينما شرط للتفكير وللإبداع الفلسفي”
الان باديوا بتصرف[1]
على سبيل التقديم
في الفلسفة، كما في السينما، لا يفعل التاريخ فعله في الأعمال التأسيسية ويجعلها طي النسيان، ولا يجعلها تفقد قدرتها الإبداعية والإنشائية في كل مرة تحتاجها البشرية لتؤسس فهما جديدا عن نفسها، ضمن هذا الافتراض، نعود للقيام بقراءة فلسفية لأحد الأفلام التي مثلت «حدثًا» سينمائيا في بداية القرن العشرين، هذا الفيلم الذي تم إنتاجه سنة 1936، وأخرجه تشارلي تشابلن، ولعب فيه دور البطولة رفقة بوليت غرادر.
«قصة الصناعة ومؤسسة الفرد، البشرية تحارب في سبيل السعادة»
تتصدر هذه المقولة بداية الفيلم، ثم تليه مشهدين متتابعين، في المشهد الأول يظهر قطيع كبير من الأغنام يتدافعون، ثم يصور المشهد الموالي الثاني تدافع العمال. قد يحيلنا هذين المشهدين ناحية وضع تساؤل جذري حول التفكير نقديا في «الدعاية الثقافية للرأسمالية» بكونها تدعي أنها تؤسس في صميم الحداثة الصناعية لتجاوز شكل الوجود الحيواني للإنسان، في حين أنها تقوم بالأساس على سحق هذا الإنسان، ومن يتوقف ليلتقط أنفاسه قد يسحق تحت أقدام النسق الجنوني للحياة في شكلها الحديث.
ينتقل بنا الفيلم في الوضعية الموالية ناحية شاشة كبيرة يراقب من خلالها «صاحب المصنع» العمال أثناء العمل مطالبا إياهم بزيادة السرعة والإنتاجية. يشير الفيلم في تقديم صورة تقريبية عن مفهوم «الأخ الأكبر» حتى قبل ظهور هذا المفهوم روائيًا مع جورج أرويل في العمل الخالد 1984 والذي نشر لأول مرة سنة 1949.
في المشهد الموالي، يظهر ولأول مرة “تشارلي تشابلن” وهو داخل سلسة الإنتاج، حيث يجسد صورة العامل في المصنع. يحاول الفيلم إظهار ذلك الطابع الروتيني لحركات العمال، أين يتواجدون «كقطعة لحم صغيرة» داخل آلات عملاقة. هذا التكرار والروتين والميكانيكية التي تشكل نسق حركات العمال الذين ينتمي إليهم تشارلي، يظهر لنا الرتابة والطابع الجنوني في عملية الإنتاج، وهو في ذلك يحيلنا على جملة من المفاهيم الأساسية في تحليل ماركس لطابع الإنتاج في المصنع، حيث يصبح الفرد مجرد جزء صغير داخل سلسلة إنتاج عملاقة تبتلع العامل، كما يبتلع الرأسمالي فائض قيمته وكما تنفصل السلعة عن صانعها الحقيقي رغم أنها من صنعه ومن جهده الخاص.
أثناء الاستراحة القصيرة التي يمنحها صاحب المصنع للعمال ليستطيعوا العودة للعمل كما يصرح بذلك الفيلم كتابة، يذهب تشارلي للحمام ليدخن سيجارة، وقبل أن ينهي السيجارة، للإشارة للوقت القصير الذي يمنح للعمال، يظهر صاحب المصنع في شاشة عملاقة، ويصرخ في تشارلي «ارجع فورًا للعمل»، فيعود تشارلي وقد ملئ قلبه الفزع، فالأخ الأكبر يراقبنا في كل مكان، بما في ذلك الحمام.
إنه اختراع ثوري! هكذا وصف الأخ الأكبر الاختراع الجديد، إنها آلة تقوم بتخفيض وقت الراحة للعمال. هكذا كان المشهد الموالي، والذي يقدم لنا السعي الحثيث الذي يدفع الرأسماليين لاستغلال كل ما يمكن من لحظات الوقت ليتمكنوا من الحصول على أكبر قدر ممكن من الثروة. فإذ كان وعد الشيوعية قائما على أن يكون المساء مخصصًا للقيام بالنقد السينمائي، فإن الرأسمالية تعدنا بالعمل بوصفه غاية نهائية، عمل يتحول إلى عملية سرقة مستمرة للوقت، أي سرقة للحياة.
يأمر صاحب المصنع تشارلي ليخضع لتجربة الآلة الثورية، لكن لسوء حظ هذا الرأسمالي، يفشل الحلم، بأن يقتات على وقت راحة العمال وتتحطم الآلة التي، ورغم تطورها، تفشل في تعويض قدرات الإنسان، إنها تقوم بالأدوار ميكانيكيًا، دون إدراك التعقيد الذي يشكل الحياة ومتغيراتها.
تحول دراماتيكي
يأمر صاحب المصنع، الأخ الأكبر، العمال برفع الإنتاجية، لحد لا يستطيع معه تشارلي مجاراة حركات الآلة، مما يؤثر على صحته العقلية، فيصاب بنوبة عصبية حادة تجعله فاقدًا للسيطرة، ويظل يكرر الحركات بشكل كوميدي، ليقدم لنا وضعية مأساوية. ينقلنا الفيلم بعد ذلك لمشهد يقبض فيه «الشرطي» على شارلي، لينقل بعد ذلك للمستشفى ويخضع للعلاج..
يخبرنا الفيلم بعد ذلك أن تشارلي «شفي من الانهيار العصبي» لكنه أصبح بلا عمل! يوصيه الطبيب بأن لا يجهد نفسه! هكذا، يجعله داخل مفارقة تشكل جوهر وجودنا الحديث، بين العمل المغترب من ناحية، وقدرات أجسادنا ونفسيتنا المحدودة على تحمل هذا النسق الجهنمي والظروف القاسية للعمل، وبين البقاء دون عمل مما يجعلنا نعاني خطر الانهيار. نحن أمام خيارين يقودان لنفس النتائج بأشكال مختلفة، إنه شارع ذو اتجاه واحد، يقود نحو الكارثة بعبارة “لفالتر بنيامين”[2].
يخرج تشابلن لصدف الحياة اليومية، فيظهر بشكل ساخر، يبدوا فيه وكأنه قائد لمسيرة تحمل شعار «الوحدة، الحرية أو الموت”، في حين أنه وجد حاملا بالصدفة لراية سقطت من شاحنة كانت تسير أمام المسيرة.
تقبض عليه الشرطة، التي تخاف مثل هذه الشعارات،ويسجن بوصفه زعيم، هكذا يولد الزعماء، بمصادفات الحياة في عالم تشارلي، وهذا ما يظهر بشكل جلي في فيلمه “الدكتاتور العظيم 1940”.
فتاة في مسار موازي، أو الصدفة المقبلة
إن تهمة السرقة هي اختراع الأغنياء ليحفظوا امتيازاتهم، بهذا المعنى المتمرد، يقدم لنا الفيلم فتاة وهي بصدد سرقة بعض الموز ورميه للأطفال الذين تبدوا عليهم السعادة التي تمثل غاية الوجود الإنساني.
تعود بعد ذلك الفتاة لمنزل عائلتها، الذي يبدوا منزلا رثا ومتداعيا، لكن المنازل التي تسكنها ملامح العائلة التي نحب، تصير أجمل المنازل وأفضلها على الإطلاق، وهذا هو الشعور الأكثر أصالة في حياة البشر.
وعندما تصل الفتاة، تلتقي أباها العاطل عن العمل، وأخواتها اللواتي تمنحهن الموز وتعانقهن، قبل أن تحضن ذلك الأب الذي، ورغم عطالته، لم يتحول لحشرة كافكا التي لا تملك أي قيمة.
الزعيم الشيوعي في السجن
يعود بنا الفيلم لبطلنا الذي صار زعيمًا سياسيا بالصدفة، بل وشيوعيًا أيضًا.
يظهر تشارلي في السجن وهو يحاول أن يتلاءم مع القواعد الصارمة لهذه المؤسسة العقابية، وتتسارع الأحداث،وأثناء الغداء وبمحض صدفة، يتناول تشارلي من علبة ملح مخدرًا وضعه أحد السجناء، فيتحول إلى “مخبول” يقوم بحركات غريبة تحت تأثير المخدر، مما يجعله «متمردًا» دون إرادة منه على نظام السجن، فينجح “رغما عن إرادته التي تعودت على الطاعة” في الخروج من السجن، لكنه يستفيق للحظات، ويعود «بإرادته» للنظام. لقد استبطن «النظام» داخليا فصار الرقيب ذاتيًا، دون حاجة لأي رقابة خارجية، وهذا هو دور التربية بالتحديد في مؤسسات صناعة الفرد البشري داخل المجتمعات الحديثة كما قدمه «بورديو» في تشريحه لدور نظام ما، كالنظام التعليمي على سبيل الذكر لا الحصر.
أثناء عودته للزنزانة، يجد بعض المساجين وهم بصدد الفرار والاشتباك مع السجانين، ووضعهم في الزنزانات، فيتدخل بطلنا ليصير حارسًا لنظام يضعه في السجن. انه إنسان مناسب للدولة الحديثة، دولة التدجين الشامل.
ينجح في مهمته، ويصبح «سوبر هيرو» مؤسسة السجن، ويتم شكره بشكل كبير قبل أن يتم تطبيق النظام، بإعادته للسجن، لقد نجح في أن يكون «زعيما شيوعيا» مناسبا للنظام.
يعود بنا الفيلم لاقتفاء مسار الفتاة، أو تلك الصدفة المقبلة، هناك، تنقلب حياة بطلتنا إثر حادثة عشوائية، تتمثل في قتل أبيها في شوارع المدينة، هناك حيث تمثل الجريمة جزء من الوجود الاجتماعي الخاص بأحياء وبحياة المفقرين.
بعد ذلك تأتي الشرطة لبيتهم لتنقل البنات للملاجئ، وهناك تبدأ مطاردة جديدة أطرافها بطلتنا المتمردة وذلك الجهاز البيروقراطي الضخم الذي يريد الهيمنة على جسدها ومصيرها.
يعود الفيلم للسجن، حيث يقيم صديقنا تشارلي، الذي صار بطل النظام، وهناك، يحظى بطلنا بمكافأة من الوزير الذي يزور السجن رفقة زوجته، والذي يمنحه العفو من إكمال فترة سجنه، وتمنحه ادارة السجن رسالة توصية تساعده في إيجاد عمل، كمكافأة. فالنظام عصى وجزرة.
يخرج صديقنا تشارلي للعالم مرة أخرى، وسرعان ما يجد عملا، لكنه، وبنفس السرعة، يفقده بعد أن أثبت بشكل باهر أنه لا يملك من الذكاء القدر الكثير.
يدرك بعد ذلك بطلنا أن حياة السجن هي التي تناسبه، هناك يستطيع أن يحظى بالأكل والشراب والرفقة دون معاناة «العمل»، هو الآن وحيد وجائع.
التقاء الليل بالنهار
تظهر الفتاة لأول مرة في حياة بطلنا، بشكل كوميدي و درامي في آن واحد، فبعد أن قامت بسرقة رغيف خبز، وأثناء هربها، تتعثر في جسد تشابلن ويسقطان معا أرضًا. هناك يستطيع صاحب الخبز الإمساك بها، وتأتي الشرطة مسرعة، يفهم تشارلي الورطة التي تسبب فيها للفتاة، فيقرر مساعدتها، وفي الأثناء، يتذكر حياة السجن الوفيرة، فيقرر ضرب عصفورين بحجر، إنقاذ الفتاة ذات الوجه الطفولي، وإنقاذ نفسه بالعودة للسجن.
لكن، وبتدخل صاحب المخبرة، تقبض الشرطة على الفتاة وتترك تشابلن حرا، فيقرر بطلنا الأكل بالمجان في مطعم ثم تسليم نفسه للشرطة، في هذه النقطة يفقد النظام معقوليته، فالسجن بالنسبة لتشابلن حلم سعيد وأفضل من حرية الجوع والوحدة.
يقبض عليه ويتم وضعه في سيارة الشرطة، وفي الطريق تصعد الفتاة، ويلتقيان، ولأول مرة، بشكل مباشر، ينظر تشابلن ناحية تلك الفتاة الجميلة التي تبدوا ملامحها مثقلة بهموم الحياة القاسية.
ينجح تشابلن في ملاطفتها ببلاهته العبقرية ولطفه، بل، وينجحان بشكل “هوليودي” في الهرب من سيارة الشرطة، بتدبير ذكي من بطلتنا.
الحب وولادة التمرد
يفتح تشابلن عيناه، فيجد طريقين: الخضوع للنظام أو الحب..
إن النظام، في شكله المعاصر، هو أساس الحرمان المنظم، فالنظام هو طريقة معقدة لخلق كائن مدجن يمارس اضطهاد نفسه بشكل ذاتي، دون الحاجة لمعاقبته أو مراقبته، وهذا هو تشابلن لحدود تلك اللحظة، عندما كان عليه أن يختار بين البقاء مع الشرطي أو المخاطرة والهروب مع بطلتنا.
إن تشابلن هو الآن آدم وهو ينظر لحواء وهي تأكل تفاح الشجرة المحرمة..
هناك، ولد الحب، والتمرد، وهما صنوان، وجهين لعملة واحدة، عملة الحياة في الحدث الثوري، على حد عبارة باديو.
بعد الهروب الناجح، يبدأ الحوار الأول بينهما:
يسألها:”أين تعيشين؟”
فتجيب، “لا مكان، أعيش في كل مكان””
يحدد جون جاك روسو السبب الرئيسي وراء التقاتل والعنف والصراع في حياة البشر بكونه ينشأ مع ميلاد واقعة الملكية الفردية للأرض، هناك توضع الحدود وتنشأ العداوة والحروب.
تتحدى بطلتنا سلطة الحدود، ومسلمة الرأسمالية، لتعلن بشكل “ديوجاني[3]” أنها مواطنة في العالم، كل العالم، وهي المشردة والملاحقة.
في تلك اللحظة، تستفيق عاطفة ورغبة في قلب “آدم” قصتنا، ويشير عليها بمنزل صغير يقع خلفهما، متسائلا:
هل تتخيليننا نعيش في منزل صغير كهذا؟
ويجيب الخيال…إن الخيال عزاء الفقراء، مقاومة “بقدرة” لا يملكون غيرها لمقاومة سياسة الحرمان المنظم التي يمارسها النظام. لكن الخيال بدوره عزاء لا يستطيع تعويض الوقائع ولا تفنيدها. لكنه، أي الخيال، وعندما يكون مدفوعا بالرغبة، قد يؤسس للفعل في العالم، وهذا جوهر “الكونتيس-الرغبة في حفظ البقاء” الذي يشكل جوهر الطبيعة الإنسانية.
يعلن شابلن (آدم) لبطلته الصغيرة، بشكل تراجيدي كوميدي في آن.
“سأفعلها، حتى وإن اضطررت للعمل”
هكذا، يوضح الفيلم مفارقة تنتجها الرأسمالية.
ففي الرأسمالية، وبفعل طبيعة العمل، يصبح العمل لعنة، لكن تلك اللعنة هي الشرط المادي الوحيد الممكن، ليستطيع الكائن البشري تحقيق رغباته الكبيرة، وفي حالنا، رغبة تشابلن المستحيلة، هي بيت صغير يجمع قلبين جمعهما الفقر والحب، والخوف من الشرطة.
بعد هذه اللحظات التأسيسية لتشابلن الجديد، ينجح بطلنا في الحصول على عمل، لكن سرعان ما يفشل فيه، ويقبض عليه من جديد بسبب اتهام صاحب العمل له بالتخريب. وبعد عشرة أيام يخرج من السجن، ليجد حبيبته في انتظاره وتخبره كون الحلم قد تحقق، لقد وجدت منزلا…
إنه منزل خشبي، قديم، بال ومتهالك، لكنها تقول عنه
” “إنه الجنة
لكنه ليس قصر باكنغهام على كل حال”.”
هكذا هو الحب، يستطيع تحويل كومة من الخردة، إلى حكاية ومعنى، وهذه فضيلة المشاعر الإنسانية، رغم أن هذا الخطاب يظهر فاقدًا للقيمة، في وقت يسيطر فيه السوق على تحديد جميع القيم.
يحاولان إصلاح البيت، وتقاسم الرغيف، قبل أن يأتي الخبر المنشود، حيث يقرأ تشارلي غلاف إحدى الصحف.
«المصانع يعاد فتحها” إنه العمل أخيرًا، الآن سنحصل منزل حقيقي
يترك الأكل، يذهب مسرعًا ناحية المصنع، إنها الرغبة، حيث يمكن أن نجد سيزيف سعيدًا.
ينجح تشابلن في الحصول على عمل في المسلخ الحديث، ذلك المصنع، حيث يفقد الإنسان حياته، ويغترب عن ماهيته، ويصير جزء من آلة عملاقة، هو مجرد تابع لها.
يحاول بطلنا التفاني في العمل لكنه يفشل، وفي أثناء ذلك يبدأ العمال إضرابا، هذا الحق الذي افتكه الضحايا بالدماء وبالدموع، لمحاولة “أنسنة” ظروف العيش.
وفي ذلك الإضراب، يكون صديقنا تشارلي كعادته ضمن ضحايا الشرطة، كما جرت العادة، ويعود بفضل ذلك للقدر الدنيوي الذي تقدمه الدولة الحديثة لرعاياها، إنه السجن من جديد، لكن هذه المرة يبدو السجن أمر مريع لتشارلي، لأنه وكما أدرك ذلك ايريك فروم” ليس بالخبز وحده يعيش الإنسان”.
السجن صار هذه المرة مفزعًا، لأنه يفقده حريته، وحريته لن تقوده إلا ناحية رغبة عارمة واحدة، أن يعيش في منزل صغير مع حبيبته.
تلعب المصادفة دورها من جديد، في حياة بطلتنا، وتنجح في الحصول على عمل كراقصة في “كباريه”.
وعند خروج حبيبها من السجن، تخبره إنها وجدت له عمل في المطعم الفخم الذي ترقص فيه وتطلب من صاحب المطعم تشغيله وتنجح في ذلك بعد أن ادعى تشارلي أنه يستطيع القيام بكل شيء، بما في ذلك الغناء، وذلك لسبب وحيد وكاف، هو الرغبة في منزل صغير يجمعه بمن يحب.
لن ينتهي البؤس أبدًا
تظهر صورة الفتاة، وقد كتب عليها “مطلوبة للعدالة”
هكذا هي حياة الإنسان الحديث، مخاطر متواصلة تهدد كل لحظة سلام ممكنة. هذا ما يجعل من القلق والاكتئاب والصدمات النفسية ونوبات الهلع أمراضًا مناسبة لأبناء هذا العصر.
إن الإنسان الحديث، الذي يعيش داخل شبكة معقدة من مؤسسات الضبط، ومع أعداد كبيرة من الناس، يختلف جذريًا عن إنسان القبيلة، الذي يعيش مع مجموعات صغيرة ومقربة من الناس، عادة ما تكون بينهم روابط دموية، هذا الشعور بالانفصال وبالانعزال، يجعل من الخوف والشعور بالتهديد وضعية سيكولوجية مناسبة بنيويًا للتعقيد الاجتماعي المذهل.
يعود الفيلم لرصد تجربة تشارلي في العمل، حيث يظهر وهو يصارع من أجل إثبات جدارته، رغم صعوبة العمل كنادل، وهو يضاهي في ذلك الراقص الذي يحاول الحفاظ على توازنه.
إن الحفاظ على التوازن يمثل هاجسًا مرعبًا لمن تدفعهم الرغبة، فهم
دائما مهددون ليس بمجرد فقدان الأشياء، بل هم مهددون بفقدان أنفسهم، وثقتهم في
قدراتهم.
يحاول بطلنا التماسك لكنه يفشل في ذلك أيضا.
بعد أن يتم تقريعه من صاحب العمل، يأتي وقت الغناء، وفي الأثناء ينسى الكلمات، لكن ورغم ذلك ينجح في إسعاد «الجماهير» وكسب قلوبهم، كيف لا وهو المدفوع برغبة الحفاظ على البقاء، الحفاظ على الحب العظيم الذي صار يربطه بالحياة.
تجري الرياح..
بعد النجاح في اختبار الغناء، تدخل قوات الشرطة لاعتقال الحبيبة المطلوبة للعدالة، لكن تشارلي وبوليت ينجحان في الهروب بشجاعة الذين لا يجدون من حول ولا قوة في مواجهة”حراس” الأزمنة الحديثة، إلا الهروب. ولنا في تجربة “فورست غامب”[4] دليل على جدوى ذلك، فالهروب هو كذلك مواجهة، وهو إرادة مقاومة «ضعيفة القدرة» لكنها تظل مقاومة بشكل ما.
الفجر من جديد
الخيبة، هي النظام، فالخيبة هي فقدان الإيمان العميق بوجود مصير آخر. بهذا المعنى تكون المحاولة، في كل مرة، جرأة الإنسان الأخير..
في مكان ناء، على أطراف المدينة الحديثة، يظهر شارلي وحبيبته، جالسين بجانب الطريق، تنهار بالبكاء،وتتساءل
ما فائدة المحاولة؟
لقد تمكن اليأس من كيانها، ونجح سلطان الزمن الحديث في وأد قدرتها على المحاولة، بأن ثمة قدر آخر خارج الموجود، إن الأشياء تنتصر عندما نعتقد بأنها نهائية وأبدية، مثل الرأسمالية، التي تضعنا أمام فرضية بسيطة، إما الرأسمالية أو الهمجية.
يجيب تشابلن، بذكاء غير معهود، وبعاطفة المعجزات..
“ابتهجي، لا تفكري في الموت، سنعيش طويلًا”
تسأل عن المحاولة، فيجيب عن الموت والحياة، لقد فهم تشارلي العلاقة الضرورية بين فقدان الإيمان بالمحاولة، وبين الموت، وكان طريقه واضح المعالم، هناك حيث الحب ومحاولة بناء بيت صغير
يسدل الفيلم الستار، والحبيبان يسيران معًا، في الطريق، نحو الشمس، في الفجر الذي نولد فيه كل يوم من جديد…
يقول المسعدي في معجزة حدث أبو هريرة قال:
“إن استطعت فاجعل كامل حياتك فجرا”
[1] مقتطف من محاضرة لألان باديوا تحمل عنوان السينما وكهف أفلاطون
[2] عنوان كتيب لفالتر بنيامين يفسر فيه حتمية الكارثة في الزمن الحديث بفعل الاداتية التي تحكم العقل الحداثي ذاته
[3] إشارة لفلسفة “ديوجانيس الكلبي” الذي كان لا يملك بيتا والذي صاغ فلسفة كوسمبوليتية ترى أن الموطنة هي بالأساس في العالم وليست الحدود سوى وهم سياسي
[4] إحالة لشخصية فورست غامب في فيلم “فورست غامب” بطولة توم هانكس سنة الإنتاج 1994