افتتاحيّة | أربعة عشر عامًا وخمسة عشر شهرًا

14/01/2025

تصميم أمل الورثي

 اليوم 14 جانفي: أربعة عشر عامًا عن بداية انتفاضات الشعوب العربية، زائد خمسة عشر شهرًا عن بداية معركة طوفان الأقصى. لم تسعف مصادفات الأرقام لاعتماد رقم رمزي واحد، لكن العبرة بما بين هذين الرقمين المتتابعين من شبه وجدل وتراجيديا.

أربعة عشر عامًا عمّا اعتقدنا أنّه بداية عودة شعوب أمّتنا إلى (كتابة) التاريخ، من خلال اسقاط الشعب التونسي لأوّل ديكتاتور عربي من خلال قواه الذاتية (وهذا صحيح إلى حدّ كبير)، وخمسة عشر شهرًا عن أجرأ محاولة من الشعب الفلسطيني لاسقاط طغيان الاحتلال الصهيوني والهيمنة الأمريكية على منطقتنا.

وفي كلتا الحالتين تحوّلت لحظات – شهور الفرح والنشوة والتفاؤل الأولى شيئًا فشيئًا إلى مشاعر قلق، حزن واحباط فتشاؤم… لدى الكثيرين منّا. ويكفي أن ننظر إلى لامبالاة أغلب التونسيين اليوم إلى ذكرى اسقاطهم للديكتاتور لنفهم مدى خيبتهم من حصيلة ثورة تداولت عليها كلّ تيارات الثورات المضادّة، من الإسلامويّين إلى الليبراليّين، وصولًا إلى الشعبويّين، بتواطؤ ورعاية موصولتيْن، من بيروقراطية الدولة التابعة وأجهزتها وعواصم المراكز الامبريالية.

يتزامن هذا الإحباط من حصيلة الثورات مع شعور عام بالعجز والانسكار حيال النكبة الفلسطينية الثانية، وإن إقتربنا لأوّل مرّة من صفقة “وقف اطلاق نار مستدام” في غزة. وأمام ما عرفته حركات المقاومة بالمشرق من خسائر فادحة، رغم صمودها الأسطوري وعدم رفعها راية الاستسلام.

وفي مثل هذه الفترات الصعبة والقاسية من التاريخ لا مناص من أن تأخذ المشاعر السلبية ما تستحقه من حيز تفرضه طبيعتنا البشرية. لكن دروس التاريخ نفسه تخبرنا أن لا شيء أبدي وأنّ دوام الحال من المحال. بل وتخبرنا أيضًا أنّ أممًا قبلنا عاشت ما عشناه – بل وأكثر بكثير – من نكسات وانكسارات وهزائم، لكنّها نجحت في أن تنهض منها وتصنع لنفسها مجدًا تليدًا. ولعلّ مثال الصين، وقبلها وبعدها وبدرجات متفاوتة، روسيا وكوبا والهند وفيتنام وجنوب أفريقيا وتركيا وإيران (حتى لا نضرب أمثلة من الدول الامبريالية)… خير دليل على ذلك.

لاشكّ في أنّ نقاش أسباب وعوامل نهوض تلك الأمم يحتاج العودة إلى ما وُضع حولها من بحوث ودراسات معمّقة، ولا يجب أن نتغاضى عمّا رافق ذلك النهوض في بعض الحالات من ظواهر سلبية أو ردّات. لكن الأكيد أنّها تشترك جميعًا في بعض الثوابت. ولعلّ أهمّها:

– نجاح هذه التجارب في تحقيق وحدتها القومية، أو الحفاظ عليها. وهو أمر مازال بعيد المنال عن شعوب الوطن العربي الذي فُرضت عليه حدود – استعمارية في أغلبها – تحوّلت إلى موانع لتحقيق أيّ تنمية اقتصادية واجتماعية جدّية. ولا شكّ في أنّ مسألة احترام التنوع الإثني واللغوي والديني تمثّل تحدّيًا لا بدّ من حلّه بشكل صحيح.

– نجاح هذه الدول في تحقيق قدرٍ عالٍ، أو معقول بأقلّ الأحوال، من السيادة الغذائية والصناعية والطاقية والمالية والعلميّة، أي بعبارة أخرى كلّ مقومات السيادة الاقتصادية، الشرط الضروري للسيادة الوطنية.

– نجاح هذه الدول في إرساء نظام سياسي قويّ، يستند إلى شرعيّة صلبة (سواء كانت لجهة الانجاز الاقتصادي، أو العلمي أو الاجتماعي أو العسكري تجاه القوى الاستعمارية والخ)، وإلى شكل من أشكال “التمثيل السياسي” للشعب، بغض النظر عن مدى دقّة وصفها بالديمقراطية.

لا شكّ في أنّ كلّ مثال من الأمثلة المذكورة أعلاه يحتاج إلى دراسة مخصوصة، لكنّها تشترك جميعا، بدرجات متفاوتة وأبعاد مختلفة، في هذه العوامل الثلاث. وهي ما نفتقد إليه بالتأكيد في الوطن العربي (وهنا الحديث عن الوضع القومي ككُلّ وليس عن الوضع القُطري الضيّق).

ولا شكّ في أنّ هذه الشروط الثلاث ضرورية فحسب لتحقيق الحدّ الأدنى من التحرّر الوطني. أمّا الانعتاق الاجتماعي والتقدم الحضاري المنشود، فلا يمكن أن يكون سوى عبر تحقيق نظام اقتصادي قائم على العدالة الاجتماعية الجذرية وفي صالح أغلبية المجتمعات، أي طبقاته الشعبية، وعبر نظام سياسي ديمقراطي (ليس بالضرورة، بل لا يجب أن يكون، على شاكلة الديمقراطيات الليبرالية الغربية) يضمن المشاركة الشعبية الفاعلة في اتخاذ القرار ومحاسبة من يختاره الناس لحكمهم، وبما يحفظ كرامتهم وحرّياتهم وحقوقهم.

أربعة عشر عامًا وخمسة عشر شهرًا. هي بلا شكّ فترة زمنية طويلة للأجيال التي عايشتها، خاصة لمن أفنى شبابه فيها. إذ شهدت انطلاق “الربيع العربي” وأفوله، قبل أن تشهد كيف ردّت أعتى قوى هذا الكوكب على طوفان الأقصى بالإبادة الجماعية. إلّا أنّها ليست سوى لحظة عابرة في تاريخ الشعوب والأمم. ومع ذلك، هناك درس واضح مستمرّ – وإن حاول البعض طمسه – من كلّ تاريخنا القديم والحديث: لستَ مهزومًا ما دُمتَ تقاوم.

مقالات ذات صلة

  • الغربة والاغتراب بعد السابع من أكتوبر

    تلقيت في الخامس من ديسمبر 2023 مكالمة هاتفية من صديقي عماد، شاب قاطن بألمانيا منذ ما يزيد عن السبع سنوات…

    بلا حياد

    الغربة والاغتراب بعد السابع من أكتوبر12
  • رأي | طوفان الأقصى: دروس لم تنته بعد…

    مع الساعات الأولى للطوفان صباح السابع من أكتوبر لم تكن صفارات الإنذار الصهيونية وحدها من دوّت في قلب "تل أبيب"،…

    بلا حياد

    416532875 641334294768180 3863305853708957659 N
  • رأي | كيف نفهم الدولة ؟

    ثمة أسئلة " حائرة "، معلقة في فضاء البهتة التاريخية حيال كل ما نتعرض له في حياتنا ومعاشنا اليومي من…

    بلا حياد

    Adel Ha
  • من غزّة المكلومة: حيدر عيد يغنّي لسماح ادريس في ذكرى رحيله

    تقديم من هيئة تحرير إنحياز: رغم ما يحيط به من قصف وقتل ودمار ودماء ودموع، لم ينس المناضل والفنّان والمثقف…

    ثقافة وفنون

    370197501 364091212750267 5210248973238885084 N