انتهت إذن الانتخابات الرئاسية بنتائج لم تكن مفاجأة لأغلب المتابعين. إذ كانت حدثًا فاترًا غاب عنه التشويق والتنافس الساخن بحكم السياق السياسي الذي أُجريَ فيه. ولم يكن مفاجئًا أن تتّسم هذه الانتخابات بضعف الإقبال عليها – خاصة من طرف الشباب – مقارنة بالمواعيد الرئاسية السابقة التي تلت الثورة. إذ لا يختلف مراقبان موضوعيّان على حقيقة أنّنا نشهد حالة من التصحّر السياسي المتزايدة منذ 25 جويلية. فنتيجة لتزايد الإحباط طيلة العشرية الماضية، بات التونسيون ينفرون تماما من السياسة ومن أهلها، ممّا أثّر بشكل بالغ على قوة الأحزاب السياسية؛ وانعكس ذلك أيضا على الاتحاد العام التونسي للشغل الذي كان يُعتبَر “الرقم الصعب” القادر على تعديل ميزان القوى بين السلطة والمعارضة – كما حصل في الأزمة السياسية التي اندلعت اثر اغتيال الشهيد شكري بلعيد عام 2013.
في ظلّ حالة الإحباط والنفور العامّ كان من المنطقي أن يتحوّل قيس سعيّد إلى اللاعب الرئيسي – وتقريبا الوحيد – في الساحة السياسية اليوم. إذ صار الجدال السياسي مقتصرًا على التعليق على ما يأتيه من قرارات أو تصريحات. ولا شكّ في أنّ موجة اعتقالات ومحاكمات بعض القيادات الحزبية والوجوه الإعلامية والاقتصادية والجمعياتية قد ساهمت في بثّ حالة من الخوف والشلل زادت في احتكار سعيّد للمبادرة السياسية. ورغم خطاب التهدئة الذي ورد على لسان شقيقه نوفل سعيّد، مدير حملته الانتخابية، إثر إعلان فوزه بالرئاسيات، لم يلبث الرئيس المُنتَخَب أن صعّد من جديد نبرة خطابه خلال مراسم أداء القسم بالبرلمان واصفًا مناوئيه بـ”الفلول والزواحف السامة والأفاعي”.
والأهمّ من نبرات الخطاب هناك الوقائع الملموسة. فممّا لاشكّ فيه، نحن نشهد منذ ما بعد 25 جويلية حالة من التسلّط، بعنوان “تطهير البلاد ومحاسبة من تسبّبوا في مآسي العشرية السوداء”. ولئن لم تتحوّل (بعد؟) هذه الحالة التسلّطية إلى ديكتاتورية مكتملة الأركان على شاكلة ديكتاتورية بن علي، فإنّ المؤشرات المنذرة بتحوّلها تتزايد. فمنذ تصريحات سعيّد عن القضاة وحلّه المجلس الأعلى للقضاء، يؤكّد الناشطون الحقوقيون وعديد المحامين وجود حالة من الخوف في صفوف الجسم القضائي، تُرجمت في استسهال إصدار أحكام بالسجن في قضايا تتعلّق أحيانًا بمجرّد التعبير عن الرأي على وسائل الإعلام أو على شبكات التواصل الاجتماعي.
ومنذ الإعلان عن نتائج الانتخابات الأخيرة، لوحظت نزعة أمنية واضحة باستهداف فئات جديدة من الناشطين. إذ شملت الإيقافات مناضلين في مجال نصرة القضية الفلسطينية والمقاطعة وتجريم التطبيع. ولئن وقع الإفراج عنهم – وأحيانًا حفظ التتبعات في حقّهم – بعد مراجعة النيابة العمومية، إلّا أنّ أغلبهم مازال على ذمة التحقيقات في تهم تتعلّق بالاحتجاجات ضدّ الدول المتواطئة مع العدوان الصهيوني على غزة ولبنان. وهذا ما يشير إلى ما يبدو أنّه محاولة من داخل بعض الأجهزة الأمنية استغلال الوضع السياسي الجديد لإحكام قبضتها أكثر على كلّ حراك احتجاجي بالبلاد – حتى وإن لم يتناقض مبدئيا مع خطاب السلطة -، وربّما يعكس أيضا استجابة لتشكّيات وضغوطات بعض السفارات الغربية التي استهدفها المحتجّون طيلة السنة الماضية. بيْد أنّ عدم انجرار النيابة العمومية إلى تحويل هذه التضييقات الأمنية إلى اعتقالات وقضايا ناجزة يؤشّر على عدم وجود قرار سياسي حاسم بتعميم القمع والقضاء على ما بقي من هامش تعبير واحتجاج.
ولا شكّ في أنّ ما يجري في تونس لا ينفصل عمّا يجري في باقي المنطقة العربية. إذ أنّ ما شهده المشرق العربي خلال الأسابيع الأخيرة من ضربات موجعة لمحور المقاومة، شجّع على الأرجح أنظمة المحور المتحالف مع الصهاينة والأمريكان على استكمال ضغطها، عبر الشبكات المرتبطة بها في بقية الأقطار العربية، من أجل القضاء نهائيا على ما بقي من حرّيات عامّة أو ممانعة في وجه التطبيع مع العدو الصهيوني. وفي ذلك استكمال لما دأبت عليه هذه الأنظمة (تحديدا السعودية والإمارات) من جهود حثيثة لإجهاض وتخريب الانتفاضات العربية منذ اندلاعها ذات شتاء تونسي قبل 14 سنة.
ومن اللافت كذلك أنّ ماكينة التضييق والضبط والتخويف انتقلت مؤخّرًا إلى شرائح جديدة من المجتمع، لكن هذه المرّة تحت عنوان أخلاقي محافظ. إذ لم يسلم حتى بعض “صانعي المحتوى” – بغض النظر عن هزالة وتفاهة هذا المحتوى – على مواقع ’تيكتوك’ و’أنستغرام’ وبعض فنّاني الرابّ من الإيقافات والمحاكمات.
في ظلّ استمرار نفس السياسات الاقتصادية النيوليبرالية وما يلمسه الجميع من تواصل تدهور الطاقة الشرائية للطبقات الشعبية والمتوسطة، وبغض النظر عن الانحياز الخطابي لرئيس الدولة لهذه الطبقات، يبدو أنّ العقل القمعي بالسلطة يحاول استباق أيّ نزعات احتجاج اجتماعي قادمة من خلال تعميم الخوف.
ورغم ما تثيره هذه المؤشرات المقلقة من أسباب للتشاؤم، فإنّه لا بديل لدينا من التمسّك بـ”تفاؤل الإرادة” وبروح “المقاومة” حفاظًا على ما أهداه لنا شهداء ثورة 17 ديسمبر المجهضة من حرّيات وأمل.. وتجرؤ على الحلم.