اجتمع الرئيس قيس سعيّد الأسبوع الماضي مع أساتذة اقتصاد بالجامعة التونسية للتشاور معهم بخصوص الحلول الكفيلة للخروج بالبلاد من أزمتها الاقتصادية. وبغض النظر عن التأويلات الممكنة لتوقيت اللقاء وأهدافه السياسية، يستحقّ الأمر ابداء جملة من الملاحظات.
اتّسم خطاب سعيّد مجدّدًا بنبرة مرتفعة ضدّ املاءات صندوق النقد الدولي والمؤسسات المالية العالمية وأبواقها في تونس. اذ أكّد مرّة أخرى رفضه التفويت في المؤسسات العمومية، لا سيما تلك “المتعلقة بالصحة والتعليم والنقل وغيرها”. كما انتقد مفهوم “الادماج الاقتصادي”، متحدّثًا عن “استلاب فكري” وعن ضرورة “التفكير في أسباب الاقصاء الاقتصادي” عوضًا عن ذلك. وكان واضحًا كذلك في رفضه لـ”إملاءات الخارج” من خلال نقده لـ”العالم الذي يجازي الطاعة والخنوع”، وباستظهاره بكاريكاتور بيرم التونسي واشارته إلى “اتفاقيات بريتن وودس” (التي أفضت إلى تأسيس صندوق النقد الدولي والبنك العالمي) وقوله أنّ “الذوات البشرية ليست مجرّد أرقام”.
يتقاطع ذلك مع ما سبق له أن اقترحه كحلّ بديل من رفع الدعم أو الغاء صندوق التعويض (الذي يسمّى خطأً صندوق الدعم في الاعلام السائد). ويتمثّل في أن يدفع الأغنياء الذين يتمتعون بالدعم “دون وجه حقّ” كلفته، عوض تحميلها للفقراء المحتاجين لذلك الدعم نتيجة الغائه استجابة لاملاءات صندوق النقد. وهي املاءات تهدف أساسا إلى تكريس سياسة التقشف في الانفاق العمومي بهدف ضرب الدور الاجتماعي للدولة وتحويل كلّ القطاعات (بما في ذلك الصحة والتعليم والضمان الاجتماعي وغيره) إلى أسواق مربحة للقطاع الخاص، وما سيؤدي اليه ذلك من تعميق حاجة دول الجنوب إلى الاقتراض (الخارجي خاصة) عوض الانفاق بعملتها المحلية (وهنا تكمن خطورة ما يسمّى بـ”استقلالية البنك المركزي”) على الخدمات الاجتماعية والاستثمار.
وقد أوضح الأستاذ رضا شكندالي، أحد من شاركوا في اللقاء، أنّ سعيّد كرّر فكرته تلك خلال اللقاء المُطوّل (دام خمس ساعات حسب قوله)، ووصفه بأنّه يحاول التفكير “خارج الصندوق”.
يؤكّد ما سبق ذكره أنّ سعيّد يحمل قناعة راسخة بضرورة تعديل السياسات النيوليبرالية التي تنتهجها الدولة منذ عقود. وقد سبق أن عبّر عن هذه القناعة من خلال شعارات فضفاضة واقتراحات تجريدية. إلّا أنّ المقترح الذي قدّمه مؤخرًا، معطوفًا على رفضه الصارم رفع الدعم والتفويت في ما بقي من قطاع عمومي متهالك، يُعدُّ خطوة ملموسة أكثر. وهي خطوة في الاتجاه الصحيح، يجب الاعتراف بها وتشجيعها.
الّا أنّ الإقرار بذلك لا يغني عن التذكير بجملة من المسائل المناقضة لما سبق. بدءًا من استمرار سعيّد في الحديث عن الشركات الأهلية كما لو كانت “حلًا سحريًا” سيُخرج المعطّلين عن العمل من بؤسهم ويسمح لهم بـ”خلق الثروة”، كما يحبّ أن يكّرر. فهذه الشركات، وإن بإمكانها أن تمثّل خطوة إلى الأمام في بعض المجالات (مثلا في الفلاحة، حيث يمكن تمكين الشباب المعطّل من الاستغلال الجماعي التعاوني للأراضي الدوليّة التي يستغلّها البرجوازيون)، إلّا أنّه لا معنى لها اذا لم تكن جزءًا من رؤية استراتيجية للاقتصاد قائمة على التخطيط وعلى دعم القطاعات المنتجة فحسب. كما أنّ احجام الدولة عن تمويل هذه الشركات وتعويل الرئيس على عائدات “الصلح الجزائي” العتيد سيحوّلها إلى مجرّد هياكل خاوية وعاجزة.
كذلك، وجب التذكير بأنّ الرئيس مازال محتفظًا بحكومة “تكنوقراطية” لطالما عبّر وزرائها ورئيستهم عن تماهيهم مع “املاءات الخارج” التي ينتقدها. ومن البداهة القول بأنّه لا يمكن تنفيذ سياسات وبرامج من خلال مسؤولين يتناقضون معها.
لكن المفارقة الأكبر في لقاء الأسبوع الماضي مع أساتذة الاقتصاد تكمن في أنّ سعيّد مازال يتصرّف كسائق سيّارة يشعل اشارة الدوران (الغمّازة) إلى اليسار، لكنّه يلتفّ يمينًا. فمن المعروف أنّ الغالبية العظمى لأساتذة الاقتصاد في بلادنا هم من التلاميذ النجباء للمذاهب الليبرالية، ويندر أن تجد منهم من ينتقد النيوليبرالية أو يدافع عن بديل تعاوني أو اشتراكي منحاز لمصالح الطبقات الشعبية. وبالتالي، من الأرجح أنّ سعيّد كان أكثر شخص دافع عن مصالح المفقّرين خلال ذلك اللقاء.
وهنا تكمن إحدى أبرز عيوب الرئيس: كثيرًا ما يعبّر عن نوايا حسنة في المجال الاقتصادي من خلال اطلاقه لمواقف وشعارات جميلة، لكنّه لا يحمل رؤية واضحة لكيفية تجسيدها في الواقع. والأدهى والأمرّ أنّه لا يعرف حتى كيف يحيط نفسه بمن يستطيعون مساعدته أو نصحه في ذلك. فعوض استدعائه لأساتذة معتنقين لمبادئ العقيدة النيوليبرالية، كان من الأجدر بسعيّد وأعضاده أن يبادروا باستشارة خبراء وأساتذة اقتصاد يفكّرون بالفعل “خارج الصندوق”. ونكتفي في هذا السياق بذكراسم الأستاذ فاضل قابوب (وهو ليس ماركسي ولا اشتراكي)، الذي قدّم في عديد المناسبات تصوّرات بديلة للنمط الاقتصادي السائد من داخل المنظومة الليبرالية نفسها.
ختامًا، لا حاجة للتذكير كذلك بأنّه لا معنى للحديث والبحث عن حلول اقتصادية في الوقت الذي تزداد فيه أوضاع الحرّيات تضييقًا، والذي يشتدّ فيه ضغط القبضة البوليسية على رقاب أبناء الطبقات الشعبية.