فريق التحرير
في حال لم يقرّر العدوّ الصهيوني التهوّر أكثر وتوجيه ضربة انتقامية ردًا على الضربة الإيرانية أمس، فإنّه يمكننا القول أنّنا إزاء تغيّرات هامّة في المشهد الجيوسياسي بالمنطقة. ويمكننا كذلك القول أنّ إيران حقّقت نجاحا استراتيجيا هامًا. وهذا النجاح لا يُقرأ من خلال تقييم حجم الأضرار التي ألحقتها بالمواقع التي استهدفتها، بل من خلال الوقائع التالية :
– عمليّاتيًا وعسكريًا : أثبتت إيران قدرتها التقنية والعملياتية العالية على بلوغ أهداف بعيدة عنها واجتياز عديد الخطوط الدفاعية، في عمليّة مُعلَنة ومكشوفة. وهو ما يعني أنّ قدرتها على الإيذاء ستكون أعلى لو تعلّق الأمر بعملية مباغتة أو ذات نطاق أوسع.
– سياسيًا ومعنويًا : أثبتت إيران قدرتها على تحدّي التهديدات الصهيونية، وكذلك الأمريكية وغيرها، التي مورست عليها كي تُحجم عن الردّ وتبتلع الاعتداء الصهيوني على قنصليتها في دمشق. وبالتالي، نجحت في إفشال المسعى “الإسرائيلي” بفرض قواعد اشتباك جديدة لا وجود فيها لخطوط حمراء على اعتداءاته على إيران. هذه المرّة تحلّت إيران بدرجة عالية من الثقة في النفس (على عكس ردّها المحتشم والمرتبك على الاغتيال الأمريكي لقاسم سليماني قبل بضع سنوات).
إلى ذلك، نجحت إيران في مزيد فضح التحالف الإقليمي بين العدوّ الصهيوني والأنظمة العربية العميلة (خاصّة الأردن والسعودية والإمارات) أمام شعوب المنطقة. كما بعثت رسائل قوّة لحلفائها الإقليميين مفادها أنّه بامكانهم أن يمطمئنوا لقوّة واقتدار حليفهم وسندهم الأكبر والأوحد. كما أنّ هذا الإنجاز من شأنه أن يخفّف جزئيًا من الأضرار الفادحة التي ألحقتها الدعاية الطائفية التقسيمية التي اشتغل عليها الإعلام الخليجي طيلة العقدين الماضيَين (لصالح الأمريكان والصهاينة) والتي نجحت إلى حدّ كبير في تقديم إيران وحلفائها “الشيعة” على أنّهم عدوّ للأغلبية “السُنيّة” في الوطن العربي، لا يقلّ خطورة عن “اسرائيل”. بل ونجحت حتى في إقناع جزء من العرب بأنّها أخطر من العدوّ الصهيوني.
– تكتيكيًا : نجحت إيران في تحقيق ما أرادته بدقّة : ردّ مباشر من أراضيها، لا يكون ضعيفًا جدًا (حتى لا تتحوّل إلى مدعاة للسخرية) ولا قويًا جدًا (حتى لا تقدّم للعدوّ الصهيوني ما يحتاجه من مبرّرات للتصعيد وجرّ الأمريكيين وراءه في حرب إقليمية).
استراتيجيًا :
– يُترجم هذا الإنجاز في نجاح إيران في فرض قواعد الاشتباك التي تريدها وفي ردّ الإعتبار لنفسها إقليميًا ودوليًا دون أن تتورّط في مواجهة تعلم جيّدًا أنّها ماتزال غير قادرة على الانتصار فيها.
– نجحت إيران في الاستمرار في نهجها المتمثّل في مراكمة القوة تدريجيًا والتحضير بصبر لمواجهة كبرى محتملة تكون قد استعدّت لها بشكل كافٍ. وفي الأثناء، تمارس إيران، أساسا من خلال حلفائها الإقليميين الذين يحاصرون العدوّ الصهيوني، حرب استنزاف بطيئة.
– الأهمّ هو أنّ إيران أعلنت من خلال عمليّتها أمس، كما لاحظت صحيفة ’نيورورك تايمز’، أنّها انتقلت من مرحلة « الصبر الاستراتيجي » إلى « الردع الأكثر نشاطًا ». بعبارة أخرى، وبمعجم ماركسي (ماوي تحديدا) يمكننا القول أنّنا إزاء انتقال من وضع الدفاع الاستراتيجي إلى التوازن الاستراتيجي. وهو وضع يكون فيه الطرف الأضعف (إيران وحلفاؤها) قد نجح في تحقيق حالة نسبية من التوازن والقدرة على ردع العدوّ دون أن يؤدّي ذلك إلى محق الطرف الأوّل. هذا الوضع، أو المرحلة، قد يطول، لكنّه إن استمرّ سيسمح لاحقًا بالانتقال إلى وضع الهجوم الاستراتيجي. أي تلك المرحلة التي يتحوّل فيها الطرف الأضعف من حالة الدفاع إلى الهجوم الكبير بهدف إلحاق الهزيمة النهائية بعدوّه.
نحن هنا نتحدّث عن الأمد البعيد (ليس أقلّ من عشر سنوات بتقديرنا)، أو المتوسط (خمس سنوات) في أفضل الأحوال. لكن ماذا بالنسبة للأمد القصير (سنة واحدة)؟ وتحديدًا بالنسبة للوضع في فلسطين وغزة؟
ماذا عن غزة وفلسطين؟
لن تؤدّي هذه الضربة بشكل مباشر الى تحقيق انتصار للمقاومة الفلسطينية، فهي ماتزال في نفس الوضع الدفاعي الصمودي، حيث تحاول استنزاف العدوّ وامتصاص ضرباته، خاصّة ضرباته الإجرامية الهمجية في حقّ المدنيّين. وانتصار المقاومة في هذه المرحلة لا يمكن أن يكون عسكريًا، بل سياسيًا واستراتيجيًا.
المقاومة نجحت بعد في تحقيق أهداف استراتيجية وسياسية هامة يوم 7 أكتوبر المجيد، وتتمثّل أساسا في : إعادة فرض القضية الفلسطينية كأولوية على العالم بعد أن هُمّشت ونُسيَت؛ تعطيل مسار التطبيع العربي مع العدوّ (تحديدا السعودية)، لكن دون إيقافه؛ ترسيخ جدوى خيار المقاومة المسلّحة مقابل تهافت المهادنة والاستسلام الذي تعبّر عنه سياسات “التفاوض” و”التنسيق الأمني” و”التطبيع” استرجاع الزخم الشعبي العربي لصالح القضية؛ تحقيق اختراق على مستوى الدعم الشعبي حول العالم؛ هذه نجاحات هامة بلا شكّ، لكنّها تبقى منقوصة وغير مؤكدّة إذا لم تترافق بتحقيق هدف استراتيجي آخر مرتبط بمسار الحرب الهمجية التي يشنّها العدوّ على غزة كردّ على انجاز 7 أكتوبر.
يتمثّل هذا الهدف الاستراتيجي في نجاح المقاومة في منع العدوّ من تحقيق هدفيْه المُعلَنيْن : أوّلًا تدمير المقاومة عسكريا وإنهاء سيطرتها السياسية على غزة (هذا هو الهدف الرئيسي للحرب)، ثانيًا استرجاع أسراه من يد المقاومة (عندي قناعة أنّ نتنياهو وجزء هام من حكومته لا يهتموّن جدّيًا لذلك، بل يتمنون موتهم لتأجيج حالة الانتقام داخل مجتمعهم ولتُطلق أياديهم أكثر).
لا شكّ في أنّ جزءًا هامًا من الشعوب العربية، وخاصة بفلسطين، يأملون لو تدخّلت إيران بكامل قوّتها من أجل دحر الصهاينة وكفّ أذاهم عن أهل غزة. لكن التقييم الموضوعي والعقلاني، يفيد بأنّ ذلك يفوق قدرة إيران. فإنخراط إيران في حرب مباشرة مع العدوّ الصهيوني يكون عنوانها وقف الحرب على غزّة سيعني بالضرورة دخول الولايات المتحدة (ومن ورائها عبيدها الأوروبيين بريطانيا وألمانيا وفرنسا وإيطاليا، فضلا عن كندا وأستراليا والخ، أيّ الغرب الاستعماري برمّته) هذه الحرب ضدّها. حرب كهذه قد تعني ببساطة تدمير إيران وإهدار كلّ ما راكمته من قوّة وتقدّم تكنولوجي خلال العقود الماضية، رغم ما تعرّضت إليه من حصار جائر وعقوبات قاسية. وبالتالي لن تستفيد غزة وفلسطين من ذلك استراتيجيًا. بل على العكس من ذلك، ستستخسر إثرها الدولة الوحيدة التي تدعمها فعليًا في هذا العالم.
بالمقابل، النجاح الإيراني أمس سيقوّي معنويات المقاومين ويشجعهم أكثر على الاطمئنان إلى قوة واقتدار حليفهم الأهم (مع بعض مرارة ربّما من عدم قدرته على التدخل المباشر لنصرتهم)، وسيرسّخ لديهم، ولدى العديدين في منطقتنا وحول العالم، فكرة أنّ الاستعداد الدؤوب وتوفير أسباب القوّة والصبر على التضحيات يمكن أن تؤدّي على المدى الطويل لتحقيق إنجازات استراتيجية ملموسة. وعليه، لا شكّ في أنّ النجاح
الإيراني سيساعد بشكل غير مباشر في تحقيق المقاومة لانتصارها الاستراتيجي المأمول.
ملاحظات نقدية لا بدّ منها
ولأنّنا نتبنّى المادية التاريخية والجدلية منهجًا للتحليل والنقد أداة اشتباك مع الواقع بهدف تغييره، فإنّه لا يمكننا عدم الإشارة إلى بعض المسائل التي قد تمثّل عوائق استراتيجية جدّية لتحقيق السيناريو الإيجابي المذكور أعلاه.
على الرغم من كلّ الإنجازات التقنية والاقتصادية والعسكرية التي أنجزتها إيران، فإنّ كلّ ذلك يبقى مهدّدًا طالما لم تهتدِ قيادتها إلى حلّ بعض تناقضاتها الداخلية – ولو بشكل نسبي. وأعتقد أنّ من أهمّ هذه التناقضات مسألة النجاح في تعزيز “اقتصاد الحرب” لديها (بحيث لا يكون على حساب الطبقات الشعبية) مقابل النزعات الليبرالية والعولميّة لدى بعض نخبها الاقتصادية، التي تتوهم إمكانية تحقيق أهدافها القومية بالانخراط في الاقتصاد الرأسمالي المعولم.
كذلك، تمكين مجتمعها (لا سيما الأجيال الشابة) من جرعة أكبر من الحرّية، سواءٌ منها في المستوى الشخصي والفردي (مثلا القيود المفروضة على النساء باسم الدين)، أو في المستوى العام والسياسي (وقف التضييق على التيارات التقدمية المعادية للامبريالية والصهيونية). إنّ النجاح في التخفيف من حدّة هذه التناقضات داخل المجتمع سيساعد على تمتين الجبهة الداخلية وتضييق هامش مناورة “الطابور الخامس” وتعزيز التعبئة والاستعداد لإمكانيات تطوّر المواجهة مع العدوّ الصهيوني، وداعميه الإمبرياليين، إلى حرب واسعة.
كذلك، من المشروع التساؤل عن مدى قدرة النخبة الحاكمة اليوم في إيران، استنادًا إلى شرعية “الثورة الاسلامية” التي قادها الخميني قبل 45 عامًا، على تجديد نفسها وتوريث عدائها للصهاينة والأمريكان إلى الأجيال التي ستأتي بعد رحيل خامنئي ومن معه من رجال الدين والسياسة والجيش من “جيل التأسيس”. بعبارة أخرى، هل أنّ النظام السياسي “الديمقراطي” الإيراني قادر على التطوّر والتجدّد بما يسمح باستمرار المشروع القومي بنفس الأهداف؟
نحن نعلم جيّدًا أنّنا لسنا إزاء نظام اشتراكي تقدّمي يمكن التعويل على تضامنه “الأُممي” مع قضايانا كشعوب عربية. بل نحن نتحدث عن نظام يميني محافظ يقود دولة ذات مشروع قومي، لا يخلو من نزعات شوفينية وطائفية، صادف أنه يتقاطع إلى حد كبير مع مصالحنا الطبقية والوطنية والقومية في التصدّي للصهاينة وحلفائهم الامبرياليين وسياسات هيمنتهم على كلّ بلدان المنطقة. ومع ذلك، من حقّنا كشعوب عربية، بل وكطبقات شعبية عربية، أن نأمل في نجاح هذا النظام في تحقيق ما لم ننجح فيه نحن بعد : هزيمة المشروع الصهيوني والحدّ من هيمنة القوى الامبريالية الغربية على منطقتنا والتأسيس لعالم متعدّد الأقطاب. كما أنّه من واجبنا أن نتضامن ونعمل مع القوى التقدمية الوطنية هناك على تغيير موازين القوى في كل بلدان المنطقة من أجل بناء علاقات احترام وندّية وأخوية، وبهدف إحداث التغييرات الجذرية الكفيلة بتحقيق الحرّية والاشتراكية والكرامة والسيادة لكافّة شعوبنا.