افتتاحية | عن صعوبة المرحلة وبعض دروسها…

12/12/2024

تصميم أمل الورثي

عندما كتبنا قبل حوالي شهرين ونصف عن “الأيّام المصيرية” التي تعيشها المنطقة العربية، لم نكن نتوقّع أن تتسارع الأحداث بهذه الوتيرة، أو أن تذهب الى السيناريو “الكابوسيّ” الذي نشهده اليوم. وإن كان واضحًا مُذّاك أنّنا أمام إمكانية تحقّق السيناريو الأسوأ، والذي مازلنا في بداياته.

إذ بات واضحًا صحّة استنتاج المجرم نتنياهو حول أنّ الشهيد الكبير السيّد “حسن نصر الله هو محور المحور”. وأنّ اغتياله كان المنعرج الحاسم في انتكاسة محور المقاومة انطلاقًا من أبرز وأقوى ساحاته: لبنان. صحيح أنّ غزّة مازالت تقاوم ببطولة ملحميّة، وأنّ اليمن مازال يُسندها، وبدرجة أقلّ “المقاومة العراقية”. لكن من المكابرة ومغالطة النفس الإدّعاء أنّ الوضع الميداني مازال على ما كان عليه قبل ثلاث شهور (أي قبل “ضربة البيجر”) وأنّ معركة طوفان الأقصى متجهة نحو انتصار تاريخي للمقاومة، كما كنّا نأمل جميعًا.

والأدهى من تراجع الوضع الميداني هو تراجع الوضع الاستراتيجي. إذ لم تتوقف الخسائر عند حدّ فقدان قيادة المقاومة اللبنانية، وجزء هامّ من ترسانتها العسكرية، وفرض فصل جبهة لبنان عن غزّة رغم الصمود الأسطوري للمقاومة جنوبًا. بل تعدّتها إلى خسارة العمق الحيوي للمقاومة اللبنانية وطريق إمدادها في سوريا. وهنا نتحدث من زاوية التحليل الجيوسياسي البحت، أي دون الخوض كثيرًا في الموقف من نظام المستبدّ بشار الأسد ومسؤوليته الأكيدة في ما حلّ ببلاده من خراب، وبمعزل عن التعاطف الطبيعي مع فرحة جزء هامّ من السوريين بالخلاص من نظامٍ كتَم أنفاسهم طيلة عقود وسجن وعذّب ونكّل بكلّ من تجرّأ على معارضته. ودون التعمّق في استقراء تداعيات سقوط نظام بشّار بهذه الطريقة على يد فصائل تكفيريّة موالية للغرب الاستعماري والجار التركي غير الأمين ولأنظمة الرجعية العربية في الخليج.

ومن المرجّح أنّ الخسائر لن تقف عند حدود دمشق. ففي ظلّ وصول المجرم ترامب إلى سدّة الحكم في المركز الامبريالي الأمريكي، يجب أن نتوقّع ضربات موجعة أخرى ضدّ طهران، من خلال استهداف مشروعها النووي وبنيتها العسكرية والعلميّة، بل وضدّ قائدها الخامنئي شخصيًا. وما سيتلو ذلك من تداعيات على الساحتين اليمنيّة والعراقية. ولا شكّ في أنّ ما حصل حتى الآن من خسارات قد أضعف – إن لم يكن كثيرًا فقليلًا – موقف المقاومة في غزة، التي باتت في حالة عزلة اقليمية شبه مطلقة. ومع ذلك، مازال مقاومو غزّة يذيقون العدوّ الصهيوني علقم ضرباتهم البطوليّة ولا يرفعون الراية البيضاء. ولا شكّ في أنّ أشبال القادة الشهداء السنوار والضيف – إن صحّ خبر استشهاده – وهنيّة لن يتوقّفوا عن جهادهم النبيل قبل أن يُنهوا المعركة بشكل مشرّف يليق بتضحيات شعبهم ومقاومته.

يترتبّ عمّا سبق تغيّر نوعي في الوضع الاستراتيجي بالمنطقة. إذ يجب الإقرار بأنّ ما عُرف خلال العقدين الأخيرين بـ”محور المقاومة” قد مُنيَ بانتكاسة جدّية. وأنّنا سنشهد خلال الخمس سنوات القادمة – بأقلّ تقدير – سيطرة نسبيّة وهجمة جديدة للمحور الأمريكي الصهيوني، وتوابعه من أنظمة الرجعية العربية بالخليج. فبرعاية ترامب (قائد “الشقّ الغاشم” من الامبريالية الغربية)، سنرى على الأرجح سقوط بلدان عربية جديدة في مزبلة التطبيع مع كيان العدوّ الصهيوني وفي المزيد من سياسات الخصخصة والتفقير الرأسمالي. كما سنلحظ انتشارًا أكبر للهيمنة الأيديولوجيّة الليبرالية التابعة بتمويل من ممالك البترودولار وما سيرافقها مجدّدا – وقد بدأ – من ترويج لخطاب الهزيمة والاستسلام تحت عناوين “العقلانية” و”التعايش” و”النأي بالنفس عن القضايا الكبرى” والاهتمام حصرًا بمصالح البرجوازية السمسارة لكلّ قُطر تحت شعار “مصر\لبنان\تونس\العراق\المغرب والخ أوّلًا”…

هل يعني الإقرار بهذه التغيّرات إعلان الهزيمة أو التخلّي عن خيار المقاومة بمختلف أشكالها؟

قطعًا لا. بل هو يعني بالأساس ضرورة توصيف المشهد كما هو – دون تجميل أو مكابرة – وإعمال وعينا النقدي من أجل استخلاص الدروس من خساراتنا – مثلما يفعل العدوّ بالمناسبة – والبناء على ما وقع مراكمته من إنجازات حقيقيّة. ولعلّ أهمّها الدرس التاريخي الذي سطّره مجاهدو المقاومة الفلسطينية في 7 أكتوبر المجيد، والذي مفاده أنّ تظافر العمل الدؤوب مع التضحيات الجسام والتخطيط المحكم كفيلٌ بتحقيق الانتصارات النوعية على أعتى الأعداء. فبذلك وحده نكون أوفياء لتضحيات عشرات الألوف من الشهداء الذين سقطوا – ومازالوا – في غزّة الشهيدة ومخيمات الضفة ولبنان واليمن وغيرها، ولألوف المقاومين الصادقين وقادتهم الأفذاذ.

ما هي أهمّ الدروس من نتائج هذه المعركة (وإن لم تنته بعد)؟

– بداية، علينا أن نعي أنّنا لسنا في صراع مع العدوّ الصهيوني لوحده. فلوكان الأمر كذلك، لحُسم أمر معركة “طوفان الأقصى” منذ الشهور الأولى مع نفاد السلاح من مخازن الجيش “الاسرائيلي”. بل نحن في صراع بالأساس مع العدوّ الإمبريالي الغربي بقيادة الولايات المتحدة الأمريكية. وتحت إمرة هذا العدوّ لفيف الأنظمة الرجعية والعميلة في المنطقة العربية (وهي معروفة ولا حاجة لتسميتها).

– كشفت هذه المواجهة مجدّدًا عدم إمكانية التعويل على أنظمة استبدادية – وإن رفعت شعارات “الممانعة والتصدّي” – تعادي مصالح أغلبية شعبها، فلا تجد حتى جيشًا مستعدًا للدفاع عنها عند سقوطها.

– كما كشفت عدم جدوى التعويل على أنظمة تابعة لا يجرأ قادتها، المناصرون لفظيا للمقاومة، حتى على سنّ قانون يجرّم التطبيع مع العدوّ. وهو ما يؤكّد من جديد عمق وخطورة مسألة التبعية (الاقتصادية بدرجة أولى) التي تعاني منها أغلب الدول العربيّة، في ظلّ تخلّيها عن سياسات تصنيعية وفلاحية وعلميّة متمحورة على حاجياتها الداخلية وعلى تكاملها القومي.

– تأكّدنا من جديد من مدى خطورة الفراغ الجيوسياسي الرهيب الذي أسفرت عنه هزيمة المشاريع العربية التقدّمية في الدول ذات الثروات الطبيعية و\أو البشريّة مثل مصر والعراق وليبيا والجزائر وسوريا… ففي ظلّ عدم وجود دولة\دول عربية ذات قاعدة تصنيعية وفلاحية وعلميّة محترمة (مثلما هو حال إيران اليوم)، تمتلك درجات معقولة من الاكتفاء الذاتي والسيادة الوطنية والديمقراطية الشعبيّة، بما يمكّنها من الصمود في وجه الحصار الامبريالي، لن تكون هناك امكانيّة حقيقيّة لاحتضان حركات المقاومة في المنطقة وتمويلها وتسليحها.

ولا شكّ في أنّ توفّر مثل هذه الدولة، بكلّ هذه المقوّمات، صار أمرًا أكثر صعوبة في عالمنا اليوم. وهو ما يطرح علينا مجدّدًا استحقاق (إعادة) بناء مشروع التحرّر الوطني العربي. أي مشروع التغيير الجذري ذي الأفق الاشتراكي الوحدوي، والمنحاز لمصالح الأغلبيّة – الطبقات الشعبية – والمتحرّر من كلّ أشكال الهيمنة والتبعيّة للمراكز الاستعمارية والمعادي للصهيونية وحلفائها بالمنطقة.

نحن في نهاية مرحلة اتّسمت بتصاعد الهيمنة الامبريالية والصهيونية على منطقتنا، لكنّها شهدت كذلك محاولات تشكّل مقاومة عربيّة جدّية لهذه الهيمنة. ونعيش اليوم بداية مرحلة جديدة، قد تشتدّ خلالها هذه الهيمنة لبعض الوقت، لكنّ التناقضات التناحرية الكامنة بين مصالح الشعوب من المحيط إلى الخليج والعدوّ الصهيوني ومن ورائه العدوّ الامبريالي الأمريكي والغربي، وتوابعهم من أنظمة وبرجوازيات كمبرادورية، لن تلبث أن تتفجّر من جديد. قد تخفُت مقاومة شعوبنا أحيانًا، وقد تأخذ أشكالا وعناوين لا تعجبنا كثيرًا في أحيان أخرى، لكنّ تاريخ هذه الأمّة، طيلة قرون، يثبت أنّها لم تستلم يومًا للاستعمار وعملائه وكانت – وستبقى – قادرة دائمًا على ولادة المقاومين.ـات والقادة الأبطال من عبد القادر الجزائري وعز الدين القسام، إلى عمر المختار وعبد الكريم الخطابي والطاهر الأسود، مرورًا بليلى خالد وجميلة بوحيرد وسعيدة النبهاني، وصولًا إلى عبد الناصر وجورج حبش وحسن نصر الله والسنوار وغيرهم.نّ كثير.

نعم، تنتظرنا سنوات صعبة جدًا. علينا أن نعي ذلك دون يأس أو احباط. لكن لا بديل لنا من المقاومة؛ فشعوب أمّتنا تستحقّ أن تعيش تحت الشمس، ويستأهل كادحيها ومفقّريها العيش بحرّية وكرامة وعدل، وليكن شعارنا ما قاله المثقف النقدي الراحل سماح إدريس: “تشاؤم العقل، عدالة القضيّة”.

فريق التحرير

مقالات ذات صلة

  •  عن الحلم والكابوس زمن الحرب

    من قال إنّ الإنسان يتجاوز الذكريات بمرور الزمن؟ من قال إنّ لكلّ الجروح دواء؟ لا أدري، لكنّي أعارضه كليًّا على…

    بلا حياد

    blank
  • تحرك أمام سفارة السلطة الفلسطينية احتجاجا على استهداف مخيم جنين

    نفّذ عدد من أعضاء تنسيقية العمل المشترك من أجل فلسطين، اليوم الخميس، وقفة احتجاجية أمام سفارة السلطة الفلسطينية في تونس،…

    الأخبار

    blank
  • الحليف وقتيّ والشّعب دائم

    انتهى نظام البعث في سوريا، بعد عقود من الحُكم. انتهى وتهاوى بشكل سريع لم نتوقّعه. فالنظام السّوري ورأس هرمه، دأبا…

    بلا حياد

    blank
  • سقوط الأسد وإعادة خلط أوراق الشرق الأوسط

    سوريا الجديدة... طريق مليئ بالألغام والمستقبل رهين ذكاء السوريين حتى نتمكن من تحليل الوضع في سوريا اليوم واقعيا، يتحتّم علينا…

    رأي

    blank