“نحن نعيش أياما مصيرية”. هذا ما نقله الإعلام الصهيوني عن رئيس وزراء العدو نتنياهو خلال جلسة مغلقة له بالبرلمان الصهيوني أمس. بالفعل، هذا التوصيف صحيح ولا ينطبق على كيان العدو فحسب، بل ينطبق – ربما بدرجة أكبر – على بلدان وشعوب الوطن العربي.
إذ دخلت معركة طوفان الأقصى التاريخية، وهي تقترب من إتمام السنة، مرحلة جديدة وحاسمة. فبعد أن فشل العدو في تحقيق أهدافه في غزة الأبيّة، قرّر الالتفات بشكل رئيسي لجبهة الإسناد اللبنانية التي استنزفته طيلة الشهور الماضية. يبدو أنّ العدوّ يسعى إلى تحويل هذه الورقة الرابحة بيد المقاومة الفلسطينية إلى ورقة ضاغطة عليها. فهو يراهن على نجاحه في دحر المقاومة اللبنانية، التي تمثّل رأس حربة قوى الإسناد في “محور المقاومة” واجبارها على التراجع عن إسناد غزة، ومن ثمّة يفرض شروطه على مقاتلي فصائل المقاومة الفلسطينيين الصامدين ببسالة أسطورية في غزة ومخيمات الضفة الغربية.
لا شيء يوحي بأنّ الصهاينة سيوفّقون في مسعاهم هذا. إلّا أنّ الموضوعية تقتضي الاعتراف بنجاحهم خلال الأسبوع الأخير في توجيه ضربات نوعية قاسية للمقاومة في لبنان. وهم يتوعّدون بأنّ في جعبتهم المزيد من المفاجآت. بالمقابل، كانت قيادة المقاومة اللبنانية، ممثّلة في شخص السيد حسن نصر الله، واضحة جدًا في تحدّيها للتهديدات الصهيونية وفي رفضها التراجع عن إسناد غزة مهما كانت التضحيات. ومن الواضح أنّنا سنشهد خلال الأيام والأسابيع القليلة القادمة معركة كسر عظام حقيقية.
إلّا أنّ ما شهدناه من ضربات موجعة من العدوّ الصهيوني يجب أن يذكّرنا مجدّدا بحقيقة يتناساها العديد من المثقفين والسياسيين ببلادنا العربية. حقيقة بديهية لطالما ناضلت شعوبنا طيلة القرن الماضي من أجل تجاوزها: لا تحرّر وطني فعلي دون سيادة كاملة في المجالات الاستراتيجية، وعلى رأسها قطاعات التصنيع والتكنولوجيا – بمختلف أجيالها – والبحث العلمي، فضلا عن الفلاحة وانتاج الغذاء والتحكم في العملة الوطنية والطاقات بأنواعها…
بالعودة إلى موقف قيادة المقاومة اللبنانية، يجب الإقرار بأنّنا أمام موقف تاريخي بطولي و”كربلائي” بأتمّ معنى الكلمة. فهذه القيادة تعيش بلا شكّ أوقاتًا عصيبة بسبب ما انكشف من حجم الاختراق الأمني الداخلي، وهو ما يجعلها غير واثقة من درجة نجاحها في تحقيق ما تضعه من خطط دون انكشافها. يضاف ذلك إلى كونها تواجه منذ البداية عدوًا متفوقًا عليها في عديد المجالات، وبظهره جلّ القوى الاستعمارية ذات التسليح المتطور والتكنولوجيا الفائقة (وعلى رأسها الولايات المتحدة الأمريكية رأس الإرهاب في هذا العالم). وليس هناك أدنى مبالغة في استعمال وصف الإعجاز على قدرة هذه المقاومة على مواصلة ضرب مواقع العدو في شمال فلسطين المحتلّة طيلة السنة الماضية، بل وتوسيع ضرباتها أمس لتشمل مواقع عسكرية على تخوم حيفا.
نحن اليوم إزاء حرب مصيرية ستحدّد لا فقط مصير قضية فلسطين طيلة العقود المقبلة – مثلما حصل إثر نكسة 67. بل هي ستحدّد أيضا مصير هذه الأمّة الممتدة من المحيط إلى الخليج، وما جاورها من شعوب الإقليم. فإذا نجح محور المقاومة في الصمود وفي إفشال أهداف العدو الصهيوني الأمريكي وداعميهم الغربيين، سيؤدّي ذلك حتما إلى استرجاع شعوبنا ثقتها في نفسها وفي قدرتها على تحدّي القوى الامبريالية وإلى بثّ روح جديدة كفيلة بإحداث تغييرات جذرية في المنطقة. أمّا في حال نجح الصهاينة وحلفاؤهم في كسر شوكة المقاومة، فإنّنا سنكون إزاء موجة جديدة ومدمّرة من الإحباط والإنهزامية والتنظير للخضوع والتبعيّة للقوى الامبريالية. بل أجزم أنّنا سنشهد تعمّقًا لأزمة الهوية لدى هذه الشعوب – أساسا لدى مثقفيها وبرجوازييها – قد تصل إلى درجة الانبتات التام والتنكّر لكلّ الروابط الثقافية والمصالح المشتركة لمجتمعاتنا في المشرق والمغرب.
ختامًا، من المتوقع أن نسمع المزيد من الأخبار الصعبة من ميدان المواجهة، لكننا لا نملك سوى الثقة في تصميم قيادة المقاومة وبسالة مجاهديها وصمود بيئتها الحاضنة. وأمام هذا المشهد الدقيق، علينا أن نجدّد طرح السؤال على أنفسنا: ماذا نحن فاعلون لنصرة اخواننا في فلسطين ولبنان الذين يدافعون عنّا جميعًا؟ القصد مسؤوليتنا الفردية والجماعية في الدعم الملموس. في مثل هذه الأيام العصيبة لا نملك ترف التعب والإحباط، بل على كلّ واحد منّا أن يسائل نفسه عن موقعه وأدائه في هذه المعركة المصيرية لنا جميعًا.