عاد موضوع التمويل المباشر للميزانية من البنك المركزي مرة أخرى على طاولة النقاش بمناسبة تقديم الحكومة لمشروع قانون في الغرض، يموّل على أساسه البنك المركزي مباشرة ميزانية الدولة على مدى السنة الحالية بمبلغ يمكن أن يصل إلى 7000 مليون دينار. وكالعادة رافقت طرح الموضوع غوغاء الخبراء والمحلّلين والمعلّقين و”الكرونيكورات” ليقوموا بوظيفتهم المعتادة: أن يلعبوا دور الحارس اللغوي للنظام القائم: أيْ نظام النهب الاستعماري المتواصل لثروات البلاد المائية التي تُستنزف في الزراعات التصديرية من قوارص وزياتين وتمور والخ، والاستغلال الفاحش لليد العاملة لدى المستثمرين الأجانب في مصانع النسيج والكابل ومراكز المهاتفة وتوسّع رأس المال الكبير بسيطرته على مؤسسات تجارية في مجالات الأموال والاتصالات وغيرها، وحتى المشروبات والصناعات الغذائية وصولا إلى السطو على أدمغة المهندسين والأطباء. هذا هو “النظام” لمن يريد مقارعته جدّيا.
لا يعني هذا
أنّ هؤلاء لا ينتقدون السلطة، بل بالعكس: هم دعاة أقصى درجات النقاوة في سير
النظام، بما يعنيه ذلك من حكم انتخابي وفصل بين السلط وهيئات تعديلية ترافق
المنظومة الاقتصادية المتوحشة تحت يافطة حرّية السوق والاستثمار ليرتع رأس المال
كما يشاء وتتحقق هكذا السعادة للجميع. ولا يعني هذا النقد أنّ هذه السلطة تعادي
هذا النظام، ودليل ذلك تواصل الاتفاقيات مع مؤسسات التمويل الدولية، وآخرها
اتفاقية التمويل التي يمنح بموجبها البنك العالمي قرضا بـ287 مليون أورو للشركة
التونسية للكهرباء والغاز من أجل إنجاز الخط الكهربائي بين تونس وإيطالياـ الذي
سيسمح للرجل الأبيض باستغلال صحرائنا لإنتاج الكهرباء وتحقيق “انتقاله
الأخضر”… وكذلك مؤخرا غياب الرئيس عن قمّة مجموعة الـ77، لكنه في المقابل
حضر القمة الإيطالية الأفريقية ذات المضمون الاستعماري…
بإختصار، مثلما كان 14 جانفي ضروريا من أجل تواصل النظام وتمرير حزمتيْ إصلاحات
خلال عشرية الإنتقال الديمقراطي (ومنها قانون ما سميّ باستقلالية البنك المركزي)،
تحت غطاء ديمقراطية شكلية، فإنّ 25 جويلية كان عبارة على هديّة من السماء لتركيز
حكم قويّ يحظى بقبول شعبي نسبيا يواصل تمرير الإصلاحات، وما خير دليل على ذلك إلاّ
ما نشهده من تعميق لسياسات التقشف يؤكّده التقرير الصادر عن وزارة المالية حول إطار الميزانية متوسّط المدى 2024-2026.
لا يمكن إذن أن نرجو خيرا من آراء أصحاب الوظائف الوهمية المذكورين أعلاه: فدورهم يقتصر على أن يكونوا مضخّات كلامية تدفع بسيول البروباغندا في قنوات ما يسمّى بالإعلام. دورهم اليوم هو أن يدفعوا بمقولات تأبيد الوضع على ما عليه: “ما تُقدم عليه الحكومة اليوم تهوّر، وهو فتح لباب الاقتراض المباشر للدولة من البنك المركزي، وهذا سيمثل خلقا للعملة لا يقابله إنتاج وهو ما سيخلق تضخما، وهذا باب مفتوح على الشعبوية بما أنّ الحاكم سيستغلّ الوضع ليقوم بمصاريف إجتماعية لتحسين أوضاع الناس لأغراض انتخابية -بما أنّنا في سنة انتخابية-…”. حتى أنّ أحدهم أراد أن يضفي على كلامه بعض الشرعية التقنية فحدّثنا أنّ المبلغ الذي سيتمّ إقراضه للدولة يمثل 14% من الكتلة النقدية الموجودة، بينما كان تطوّر الكتلة النقدية في السنوات الـ2000 يقدّر بمعدّل 10% سنويّا… سيول لا تنتهي من المغالطات وأنصاف الحقائق لن نسأم الردّ عليها مثلما قمنا بذلك في السابق([1])، إلاّ أنّنا سنركّز هنا على تغيّر موقف القائمين/ات على السياسات الاقتصادية للبلاد.
إذ كان مفاجئا للجميع أن تتقدّم وزيرة المالية بهذا المقترح، وهي التلميذة النجيبة للمؤسسات الدولية والرافعة دائما لشعاراتها من قبيل الإصلاحات وضرورة سداد الديون وتقليص كتلة الأجور وترشيد النفقات. والغريب كذلك قبول محافظ البنك المركزي بمثل هذا الإجراء، وهو الذي امتنع عن إقراض الدولة في أحلك فترات جائحة كورونا. ففي نهاية 2020، رفض محافظ البنك المركزي أن يموّل خزينة الدولة مباشرة في إطار قانون المالية التكميلي لتلك السنة، متعلّلا بنسبة التضخم التي يمكن أن “تصل إلى رقمين”([2]). ولم يقبل بذلك إلاّ بعد أن تمّ تخفيض المبلغ الذي طلبته الحكومة من 4000 مليون دينار إلى 2800 مليون دينار. فسبحان مغيّر الأحوال! ما الذي تغيّر اليوم لكي يتحوّل إثنين من أكثر المدافعين شراسة عن العقيدة الاقتصادية المهيمنة إلى القبول بما يمثل كفرا وزندقة بالنسبة لهذه النظرية، وها نحن نسمع غوغاء الخبراء تندّد بهذه الفعلة الشنيعة هنا وهناك.
في الأسباب “التقنية” للقرار
لنفهم هذا التغيّر المفاجئ، يجب علينا أن نبحث في أسباب هذا القرض. ببساطة، هناك من ناحية ضرورة سداد قرض رقاعي أصدرته الدولة التونسية على الأسواق العالمية سنة 2017([3]). إلاّ أنّه من ناحية أخرى لم تستطع الحكومة التونسية الحصول على التمويلات اللازمة من الخارج لتسديد هذه الديون. إذ أنّ هذا القرض هو بالعملة الصعبة، يجب إذن تسديده بالعملة الصعبة، وعليه يجب أن تحصل الدولة على تمويل بالعملة الصعبة. إلاّ أنّ عدم حصول اتفاق مع صندوق النقد الدولي لم يؤدّ فقط إلى عدم الحصول على قرض من هذا الأخير، بل أغلق كذلك أمام الحكومة التونسية إمكانيات الإقتراض من ممولّين آخرين يضعون من بين شروطهم الحصول على اتفاق مع تلك المؤسسة. كذلك، فإنّ ترقيمنا السيادي المنخفض لدى وكالات التصنيف يلغي إمكانية الذهاب مرة أخرى إلى الأسواق المالية العالمية للحصول على تمويلات نظرا لنسب الفائدة المشطّة التي سيتمّ توظيفها على السندات التونسية في تلك الأسواق. كحصيلة لكلّ هذا، فإنّ الحكومة التونسية عاجزة إلى حدّ اللحظة أن تحدّد مصدر حصولها على 10000 مليون دينار رسّمتها في قانون المالية في خانة التمويل الخارجي.
هنا بقي أمامنا ثلاثة حلول. الأوّل هو الاقتراض مجدّدا بالعملة الصعبة من البنوك التونسية. هذا الأمر غير ممكن بما أنّ هذه العملية تمّت منذ فترة وجيزة (أكتوبر الماضي) ولا يمكن للقائمين على الشأن الاقتصادي أن يخاطروا بإفراغ البنوك من مدحّراتها بالعملة الصعبة. الحلّ الثاني هو عدم سداد ذلك القرض. علاوة على أنّه قرار سياسي يتجاوزهما، وهو رأسا من مشمولات الرئيس، فإن وزيرة المالية غير قادرة على ذلك بحكم ضيق أفقها السياسي والمعرفي بما أنّها خرّيجة الإدارة وترعرت صلب إيديولوجيا التلميذ النجيب التي تفخر بها الدولة التونسية منذ حكم بن علي. والمحافظ غير قادر على الذهاب في ذلك القرار حفاظا على مكانته ورصيده الرمزي في محافل التكنوقراط الدولية، ونذكّر هنا أنّه تمّ تكريمه كأفضل محافظ في منطقة ما يعبّر عنها بـ“شمال أفريقيا والشرق الأوسط“ سنة 2019.
الحلّ الثالث كان القرار الذي اتخذاه: الاقتراض المباشر من البنك المركزي. سيتمّ تحويله في ما بعد إلى الدائنين بعد مبادلته (Swap) بالعملة الصعبة كذلك مع البنك المركزي، الذي سيستعمل مخزون العملة الصعبة الذي يُشرف عليه. وقد أعلمنا مسبقا السيد المحافظ بأنّ هذه العملية ستتسبّب في نزول مخزون العملة الصعبة بما يعادل 14 يوم توريد (هو الآن في مستوى 117 يوم توريد). وها نحن نعلمكم منذ الآن بأنّ القضيّة الإعلامية الكبرى في الفترة القادمة وموضوع الغوغاء سيكون مخزون العملة الصعبة. لسائل أن يسأل: أليست هذه مخاطرة بالنسبة للمحافظ ووزيرة المالية؟ أليس “طبعان فلوس”؟ ألن يتسبّب هذا في ارتفاع الكتلة النقدية، وهو الذي بدوره سيتسبب لنا في حالة من التضخم؟
الإجابة بكلّ بساطة هي لا. ليست مخاطرة بالنسبة لهما، ونتحدّث هنا حتى انطلاقا من منظومتهما الفكرية. لأنّ الكتلة النقدية لن يكبر حجمها ولن يكون هناك تضخم ناتج عن الكتلة النقدية. ببساطة لأنّ المبالغ التي سيتمّ إقراضها ستتحوّل مباشرة إلى الخارج، وهو بمثابة تقليص للكتلة النقدية. هذا التفسير الأوّل والمباشر لإقدامهما على هذه الخطوة، لأنّهما يعلمان أنّها لا تشكّل أيّ خطر من زاوية نظر عقيدتهم الاقتصادية. أما السبب الثاني لعدم لجوئهما مثلا إلى الاقتراض من المنظومة البنكية بالدينار ثمّ القيام بمبادلتها بالعملة الصعبة مع البنك المركزي، فهو مرتبط بعقيدتهما الإقتصادية بأنّ البنوك لديها سيولة محدّدة يمكن أن تُقرضها. والمبلغ المطلوب منها مرتفع بعض الشيء، وعليه فإنّ هذه العملية ستتسبّب في تقليص السيولة الموجّهة نحو “الاقتصاد”، أي القطاع الخاص في منظورهم… متناسين أنّ البنوك التجارية حين تُقرض حريفا فهي لا تأخذ الأموال من ودائع حرفاء آخرين بل… تخلق العملة!
قبل أن نختم الجانب “التقني”، يجب الإشارة إلى نقطة مهمّة: خلاص هذا القرض في حدّ ذاته يمكن أن يتسبب في حالة مستقبلية من التضخم، لا بسبب ارتفاع الكتلة النقدية، بل بسبب انخفاض مخزون العملة الصعبة. فالمؤشرات لا تنبئ “بانفراج” في علاقة بصندوق النقد الدولي، وعليه فإنّ التمويلات الخارجية ستكون شحيحة خلال هذه السنة. سيتسبّب ذلك في مزيد انخفاض منسوب العملة الصعبة بما أنّ الاقتصاد التونسي هو اقتصاد يعاني اختلالا هيكليا في الميزان التجاري تعوّدنا تلافيه عبر الديون الخارجية التي تتحصل عليها الدولة (ونشير هنا أنّ هذا الاختلال هو السبب الوحيد الذي يدفع الدولة للاقتراض الخارجي بما أنّ جميع المصاريف الحكومية بالدينار التونسي).
هل هو بداية تحوّل في سياسات الدولة؟
إذن من الواضح أنّ قرار تمويل البنك المركزي المباشر لميزانية الدولة أتى في ظروف عصيبة بالنسبة لرأسيْ السياسة المالية للبلاد، وهي شح التمويلات الخارجية والضغط الموجود على البنوك المحليّة. لكن وبالخصوص أتى في ظلّ اقتراب “يوم الحساب”، يوم خلاص قرض خارجي قديم على السوق المالية العالمية. وقد فهمنا أنّ هذه السلطة، مثلها مثل سابقاتها، تضع سداد الديون على رأس أولوياتها لتحافظ على “صورة تونس في الخارج” (أي لدى الأسواق العالمية)، مهما عبثت هذه السوق بنا وبترقيمنا السيادي ومهما ارتفعت نسب الفائدة الموظّفة على السندات التونسية. هذه هي أولويتهم، ويردّدون ذلك في جميع المنابر. إذ تقول وزيرة المالية أنّنا “حريصون على خلاص ديوننا في آجالها رغم كل الإكراهات”([4])، ولا نسمع منها مثل هذا الحرص لتوفير دواء السرطان مثلا. بل ويبدع المحافظ في مجال العلوم السياسية عندما يقول أنّ “خلاص الديون هو أحد مقوّمات السيادة الوطنية”([5]). ففي قرارة أنفسهم يقولون: حتى وإن خسرنا معركة التمويلات الخارجية، فلا يجب أن نخسر معركة المحترمية، لأنّ “خلاص الديون في آجالها يجلب المستثمرين ويطمئنهم”.
هذا هو إذن لبّ الموضوع: العملة الصعبة. يجب أن تتواصل إمدادات العملة الصعبة ليستمرّ النظام: دون عملة صعبة لن يأتي المستثمر الأجنبي لأنّه يخشى ألاّ يتمّ تحويل أرباحه إلى الخارج. دون عملة صعبة لا يمكن أن تتواصل الحركة التجارية مع العالم لأنّه، بفضل سياسات هؤلاء ومن سبقهم، فقدت الدولة التونسية كلّ سيادة على غذائها وكلّ قدرة على تصنيع أساسيات العيش. عدم خلاص قرض السوق العالمية هو بمثابة الكارثة العظمى التي ستتسبّب برأيهم في سلسلة من الكوارث الأخرى: فقدان القدرة على شراء القمح والمحروقات وباقي المواد الأساسية، ندرة في تلك المواد، حالة من التضخم الكبرى، هروب المستثمرين وفقدان مواطن الشغل… وغيرها من السيناريوهات التي تجد المناخ الملائم في مخيّلات محدودي الأفق هؤلاء. هذه جهنّم بالنسبة لأصحاب العقيدة الاقتصادية، وعلى باب جهنّم يكثر التائبون ويعتنقون أيّ دعوة يرون فيه خلاصهم، حتى ولو كانت دعوة من قضّوا حياتهم في شتمهم وتتفيه مقولاتهم… حتى ولو اضطرّهم ذلك إلى… “طبعان الفلوس”…
ليس لنا أيّ وهم أنّ هذا القرار ماهو إلاّ توبة ليلة مظلمة. فلم يتمّ المسّ من جوهر استقلالية البنك المركزي في القيام بمهامه، وهي إدارة عملية خلق العملة عن طريق القروض التي تسديها البنوك: لا نرى أيّ بوادر تغيير في التوجيه الكميّ أو النوعيّ للقروض: ستحافظ الفلاحة على جزء ضئيل جدا من القروض المسداة للإقتصاد (3,2%) بينما يواصل قطاع الخدمات الاستئثار بنصيب الأسد منها (64%) ونعرف خير المعرفة أن أغلبية القروض الموجهة للفلاحة لا تذهب للفلاحين الصغار، بل يذهب أغلبها للمستثمرين الفلاحيين في الزراعات التصديرية، ونواصل بهذا هدر مواردنا المائية والتخلّي عن أيّ سياسة فلاحية تعيدنا إلى طريق السيادة الغذائية. ونعرف خير المعرفة أنّ قطاع الخدمات هو قطاع هدر الموارد بامتياز: قروض موجهة نحو الاستهلاك أو شراء السيارات (في غياب نقل عمومي يلبّي حاجيات الناس) أو قطاع البناء، هدر موارد يقابله مواصلة استثراء حفنة من البرجوازية التجارية الرثة وغياب أيّ رغبة في إنتاج الأساسيات (هل وجد أحدكم حتى معجون أسنان يُنتج في تونس؟).
كذلك من الزاوية الكمية سيتواصل شحّ السيولة المفروض على الاقتصاد الوطني منذ الإصلاح الهيكلي. نذكّر هنا مرّة أخرى أنّ البنوك تخلق العملة عندما تسدي قروضا، وأنّ الإصلاح الهيكلي في جوهره هو ضغط على الكتلة النقدية. وقد قام البنك المركزي بهذه المهمة على أحسن وجه، حيث تقلّص المعدّل السنوي لتطور القروض المسداة للاقتصاد من 23% قبل فترة الإصلاح الهيكلي إلى 10,46% في فترة بن علي وتقلّص أكثر بعد الثورة إلى 8,4%. وعليه سيتواصل التطور البطيئ للكتلة النقدية في البلاد، حيث ستواصل ركودها بنسبة 8,5% في تطوّرها السنوي منذ 2011 بينما كانت تتجاوز 18% قبل الإصلاح الهيكلي (1972-1984)، وكانت حتى تتجاوز 10,8% في فترة بن علي (أنظر/ي الرسمين البيانيين أدناه). هذا القرض كما قلنا أعلاه لن يتسبب في زيادة في الكتلة النقدية. إذن سيتواصل شح السيولة وسيتواصل معه شح الاستثمارات لتتواصل معهما البطالة: في اقتصاد نقدي (أي يتعامل بالعملة)، لا يمكن أن نطلب من الناس أن يشتغلوا أيّ مهنة أو حرفة في ظلّ غياب النقود في شرايين الاقتصاد. ستتواصل إذن الهشاشة… ليتواصل معها الاستغلال السهل لليد العاملة التونسية لدى المستثمرين.
سيبقى إذن منطق السوق هو المتحكم في القروض المُسداة للاقتصاد، وستبقى الدولة متخليّة عن سيادتها النقدية.
أما من ناحية السياسة الحكومية، فيخبرنا تقرير إطار الميزانية المتوسّط المدى 2024-2026 أنّ سياسة التقشف ستتواصل: “التحكم في نفقات التأجير”، “التحكم في نفقات التسيير”، “التحكم في نفقات الدعم وترشيدها”، “تحسين حوكمة المؤسسات العمومية” مع “عدم إثقال كاهل الفاعلين الاقتصاديين”… نفس اللغة الرمادية لتوصيف نفس السياسات الباهتة. لن ننتظر أن نقرأ مثلا أنّ الحكومة ستفي بمستحقات المنشآت العمومية لديها لتُخرجها من ضائقتها المالية. سيبقى ديوان الحبوب (2481 مليون دينار)، والشركة التونسية لصناعات التكرير (1039 م.د.) والصيدلية المركزية (628 م.د.) يعانون الأمرّين جرّاء عدم حصولهم على مستحقاتهم من ميزانية الدولة. ولا يجب أن نتعجّب إن تواصلت ندرة المواد الأساسية خلال الفترة القادمة بما أنّ المؤسسات العمومية المحمول على عاتقها توفيرها ستبقى تعاني ويلات سياسة التقشف… كذلك لن نشهد انتدابات تذكر لا في الصحة ولا في التعليم، بل سيتمّ “التخفيض التدريجي لعدد الرخص الممنوحة لمدارس التكوين خلال الفترة 2024-2026″…
في كلمة،
ستبقى دار لقمان على حالها، وسيكون قرار التمويل المباشر للميزانية من البنك
المركزي هو قرار لإطالة أمد هذا النظام الاقتصادي المبني على النهب الاستعماري من
جهة وسياسات التقشف من جهة أخرى. لكنّه سيكون حجة ضدّ المسؤولين على الشأن
الاقتصادي للدولة: أنتم تعلمون جيّدا أنّه يمكن خلق العملة عند الضرورة، وتعلمون
جيّدا أنّ بلدانا أخرى تقوم بذلك دون إشكال، وتعملون جيّدا أنّ الدولة التونسية
نفسها استعملت هذه الوسيلة خلال فترة الستينيّات لتمويل مشاريعها الصناعية ومشاريع
البنية التحتية والخروج من الحالة المزرية التي كانت عليها البلاد عند خروج
الاستعمار (84% نسبة أمية، 40 أمل حياة عند الولادة)… لكنّكم لم تلجأوا إليها
إلاّ لخلاص الديون الخارجية.
[1] مثلا:
- عندما يسخر المغرور من يده المشلولة: “تحبّو طبعان الفلوس؟” أو سياسات الوصم الساذج في خدمة التقشف. إنحياز، سبتمبر 2021.
- لا تُدار الدولة مثلما تُدار شؤون المنزل: دليل الحاكم للحرص على الأرواح دون أن يخشى التضخم. إنحياز، سبتمبر 2020.
- الجدال حول استقلالية البنك المركزي: السيادة النقدية لا تقتصر على إقراض الدولة. إنحياز، أوت 2023.
- [2]Lâché par la BCT, quelle sera
l’alternative du gouvernement pour boucler le budget? - La BCT avait craint une inflation à deux
chiffres en 2020. Tunisie Numérique, Avril 2021. - Les 2810 Millions de Dinars de la BCT
pour l’État, voci comment ça va se passer. Réalités Online, Novembre 2020.
[3] وزيرة المالية: حريصون على خلاص ديوننا في آجالها رغم كل الإكراهات. جريدة المغرب، غرة فيفري 2024.
[4] نفس المصدر
[5] العباسي: الوضعية صعبة نظرا لنسبة الاقتراض المرتفعة، آكسبراس آف آم، غرة فيفري 2024.