على الرغم من أن البعض يرى أن النيوليبرالية مازالت مصطلحًا ملتبسًا فقد جرى إستعمالها لفترة طويلة نسبيا كافية لكي تحقق على أقل تقدير قوامًا أساسيا يرسخ تحديد تعريف لها.
ويرى معظم المهتمين بهذا المفهوم أنه تتوفر مجموعة من السمات التي تميز النيوليبرالية والتي إذا ما أتُخِذت معا يمكن أن يطلق عليها إسم الليبرالية الجديدة /النيوليبرالية (الرأسمالية غير المنضبطة/غير المقيدة).
إن أول إستعمال حديث لمصطلح الليبرالية الجديدة «النيوليبرالية» للتعبير عن هذه الرأسمالية المٌخربة، في شيلي وغيرها من دول أميركا اللاتينية، كان قد أستعمل ونُشر في كتب ومقالات في الثمانينات من قبل منفذي هذه السياسات من إقتصاديي ومثقفي أميركا اللاتينية ثّم إنتشر هذا التعبير في بقية أنحاء العالم في أواخر القرن الماضي والقرن الحالي[1]. وأصبح هو التعبير الشائع في جميع أنحاء العالم للتعبير عن الرأسمالية المعاصرة والأفكار والسياسات المرتبطة بها.
كما أستعمل كذلك تعبير مدرسة شيكاغو الإقتصادية للدلالة على النيوليبرالية وقد إستخدام دائما هذا التعبير في الأدبيات الإقتصادية أو السياسية لذّم إقتصاد السوق الحر المطلق (نظريا وفكريا) وأحيانا يستخدم مصطلح “صبيان شيكاغو” للسخرية ولربط هذه المدرسة الإقتصادية بعصابات ومافيات شيكاغو، في الوقت نفسه فإن قليلاً جدًا من الأكاديميين في الجامعات عدا جامعة شيكاغو من إعتبر أن مقولات ونظريات فريدمان هي ذات قيمة علمية أو عملية. تغير الأمر تماما في سبعينيات القرن الماضي بعد أن حصل هايك في عام 1974 وفريدمان في عام 1976 على جائزة نوبل للإقتصاد.
لقد ظهرت الليبرالية الجديدة للعلن لأول مرة وكأفكار عامة في أواخر الستينيات وحققت زخما في السبعينيات أثناء أزمة السياسات الرأسمالية المنضبطة (الكينزية)، الا أن الكثير من الإقتصاديين الأميركيين إستغرب هذه الأفكار وإمكانياتها في حّل الأزمة الإقتصادية حينذاك.
في نهاية السبعينيات كان لليبيرالية الجديدة ومدرسة شيكاغو خصوصا مدربين من الأكاديميين الشباب ومنهم من كان يعمل بجد على تقليل أهمية الأفكار الكينزية ومحاولة إنهائها بمساعدة مراكز البحث اليمينية وبعض الشركات والرأسماليين الذين دفعوا الأموال الطائلة والدعم اللوجستي والدعائي لتوسيع نطاق هذه الأفكار وزيادة أعداد الخريجين المتأثرين بها. وتخرج من هذا القسم طلبة من بعثات أميركا اللاتينية من الإقتصاديين الذين كان لهم دورًا مميزًا في التجربة الأولى لتطبيق السياسات الليبرالية الجديدة في شيلي إثر الانقلاب الدموي في 11سبتمبر 1973 (ضد الرئيس الاشتراكي اليندي) وقد أعتبرت تجربة تطبيق السياسات النيوليبرالية في الشيلي المحاولة الأولى لاختبار السياسات النيوليبرالية في الدول التابعة. اذ أن النيوليبرالية وان كانت نتيجة تحولات سياسية واقتصادية وإجتماعية وثقافية وتاريخية في دول المركز، الا أنها لم تكن نتاج لمثل هذه التحولات في الدول التابعة بل كانت نتاج خطط وبرامج أعدت داخل الحقل الأكاديمي (مدرسة شيكاغو أساساً).
يري دافيد هارفي أن تسمية «الليبرالية الجديدة» مؤشر على تمسك من يدعمها بمبادئ السوق الحّرة للاقتصاد النيو كلاسيكي أو الكلاسيكي الجديد الذي ظهر في النصف الثاني من القرن التاسع عشر بفضل كتابات “ألفريد مارشال “،”وليم شانلي”،”جيفونز وليوى” و”والرايس” لتحل محل النظريات الكلاسيكية التي تحدث عنها كل من “آدام سميث” و”دافيد ريكاردو” وبالطبع “كارل ماركس .[2]“وكان تمسكهم بهذه التوجهات توازياً مع تمسكهم أيضا برأي آدام سميث بأن اليد الخفية للسوق هي الوسيلة الأفضل لحشد وتعبئة الغرائز البشرية حتى الوضعية منها مثل الشره والطمع والرغبة في الثروة والسلطة لأجل فائدة الجميع[3]، لهذا فإن المبدأ النيوليبرالي الجديد يناقض تماما نظريات تدخل الدولة مثل تلك النظريات التي ناد بيها “كينز” (منتصف الثلاثينيات من القرن العشرين).
كما يري ان النيوليبرالية مشروع سياسي لإعادة تأسيس الشروط والظروف الملائمة لتراكم راس المال واستعادة سلطة النخب الاقتصادية. بذلك تكون النيوليبرالية مجموعة من السياسات الاقتصادية سجلت نجاحا كبيرا ما دعانا للبحث حول آليات هذه العملية.
الآليات الأيديولوجية والثقافية:
هذه الآليات متعددة ومتنوعة، تنتشر عبر الشركات، الإعلام، والمؤسسات التي تشكل المجتمع المدني كالجامعات والمدارس والكنائس ومراكز الفكر التي تعتبر حجر الزاوية في نشر الأيدولوجية النيوليبرالية. لقد تأسست في الولايات المتحدة وفي أوروبا الغربية وخصوصا بريطانيا في خمسينيات وستينيات القرن الماضي مجموعات فكرية وأكاديمية، سميت «مراكز البحوث»، وكانت تصدر تقارير وتحليلات سياسية وإقتصادية وإجتماعية، وكانت تمول أساسا من قبل الشركات والمؤسسات الأمريكية الكبرى وتكون تقاريرها عموما دليل عمل لذوي القرار سواء في الدولة أو في الشركات، ولها تأثير في الكونغرس والإدارات الحكومية والجهات الإعلامية ومؤسسات الضغط وذلك من خلال دراساتها وتقاريرها ومقالاتها. إن أهم ما قامت به الشركات والمؤسسات الأمريكية الكبرى ومنذ سبعينيات القرن الماضي هو الاستحواذ الفعلّي على معظم المؤسسات الفكرية الموجودة وخلق أخرى في هذه الفترة، لبناء مناخ عام داعم للأفكار النيوليبرالية ولتقديم الحجج الفلسفية والدراسات تأييدا للسياسات النيوليبرالية فظهر طوفان من المقالات والكتب المؤيدة والمدافعة عن القيم النيوليبرالية. ومما ساعد كذلك على إنتشارها إعتناق هذه الأفكار من قيل العديد من الأحزاب السياسية حول العالم.
ومن أهم هذه المؤسسات الفكرية «معهد بروكنغ brookings institute« وهو لايزال نشطا ومستمر بالعمل، كان هذا المعهد أحد الأعمدة الفكرية لمفاهيم الإقتصاد المختلط بضمنها الكينزية لكن تّم إحتوائه ليتحول إلى مناصر لمفاهيم الليبرالية الجديدة، وجمعية «مونت بيليربن »Mont pelerin society الفكرية فقد كانت منذ البداية معارضة للكينزية وكان أحد مؤسسيها سنة 1947 فريدريك فان هايك. ولعل أهم وأكثر هذه المراكز تأثيرا في هذه الفترة هو معهد المشروع الأمريكي الذي تمتد جذوره الي أربعينيات القرن الماضي[4].
من بين القيم التي سعت النيوليبرالية الي نشرها الحرية الفردية والحرية الشخصية وروجت بإن هذه الحريات تكون مضمونة فقط في السوق “الحر”.
ورسخت فكرة أن المبدأ أن كل فرد يعد مسؤولاُ وعرضة للمساءلة عن أفعاله وعن سعادته، وهذا المبدأ يمتد ليشمل مجالات الرفاه والتعليم والصحّة والرعاية الصّحية وحتى الضمان الاجتماعي.
ونجاح الفرد أو فشله يفسر من خلال النيو ليبراليين بعبارات فضائل المبادرات الخاصّة أو عجز شخصّي ولا يفسر بأي خاصية جهازية (خاصة بالنظام)، فكل شخص مسؤول وعرضة للمساءلة عن سعادته ونجاحه فنجاح الفرد أو فشله يفسر بالمبادرة الخاصّة مثل عدم الإستثمار الكافي في رأس المال البشري للشخص عينه من خلال التعليم مع إقصاء تام لمساءلة النظّام القائم ومؤسساته. وعلى تعبير التصريح الشهير لمارغريت ثاتشر بأنه “لا يوجد شيء اسمه مجتمع، بل أفراد من الرجال والنساء فقط”.
الآليات السياسية والاقتصادية:
يتمثل الإنجاز الجوهري الرئيسي لليبرالية الجديدة في إعادة توزيع الثروة والدخل عوضا عن توليد الثروة والدخل من جهة، كما سجلت الليبرالية الجديدة من جهة اخري نجاحا هائلاً من وجهة نظر الطبقات العليا[5]. فهي إما أنها أعادت سلطة الطبقة الواحدة إلى النخب الحاكمة كما في الولايات المتحدة الأمريكية وإلى حد ما في بريطانيا أو أنها خلقت الظروف الملائمة لتشديد سلطة الطبقة الرأسمالية القائمة.
وتتمثل أول أعمال النيوليبرالية في إضعاف ثّم في تدمير المؤسسات والقوى الاجتماعية والسياسية السابقة مثل النقابات وأنظمة الرفاه الاجتماعي. فالدولة النيوليبرالية تعادي كل اشكال التضامن الاجتماعي التي تضع قيوداً على تراكم رأس المال، والعمل على خصخصة المؤسسات الحكومية حتى تلك التي تخّدم الصحّة والتعليم والخدمات العامّة، وقد تمت الخصخصة في إتجاهين: 1-إعادة النظر في الضرائب المفروضة على الشركات الصناعية والتجارية، 2-وبيع المشاريع المملوكة من الدولة للقطاع الخاص، باعتبارها خروجا على قواعد القانون الطبيعي.
وعملت على انسحاب الدولة من العمل في مجالات خدمية واسعة، أي إنهاء قيام الدولة بالاستثمار وإبعادها عن قطاعات الإنتاج والخدمات بحجة ترك هذا الأمر للقطاع الخاص وللاستثمار الأجنبي والاعتماد فقط على الضرائب لتمويل ميزانيتها.
بحيث أن القطاعات التي كانت الدولة تتولى إدارتها وتنظيمها سابقا يجب أن تعطي للقطاع الخاص وتُحّرر من تدخل الدولة.
لقد إحتاجت الأجندة النيوليبرالية الي دعم نظري وهكذا وظف البنك الدولي وصندوق النقد الدولي الإطار النيو كلاسيكي الذي رفع مكانة التنمية بقيادة القطاع الخاص إلى نظام إيماني. فطرح مجموعة من الأدبيات التي أوصت بإلغاء التدخل الحكومي وطالبت بتحرير الأسعار[6].
وهو ما حدث في معظم الدول التي اتبعت هذه السياسات بالفعل، فلم تعد الدولة تستثمر في إعادة تأهيل وتشغيل المشاريع الصناعية والفلاحية (الزراعية) ما فتح باب الاستيراد. وأصبحت الدول تستورد كل شيء. وأضحى اقتصادها اقتصادا استهلاكيا.
ينطلق منظرو الليبرالية الجديدة من حقيقة مؤداها أن السياسات الكينزية وعموما النظريات التي تعتمد على التخطيط وقيادة الدولة للنشاط الإقتصادي وتنزع نحو الاشتراكية أكثر من نزوعها نحو الرأسمالية سياسات فاشلة، وأن الرأسمالية دونما حاجة لأي محاولات توفيقية، قادرة على أن تصحح أي إختلال يحدث داخلها، بل إنهم يرجِعون الأزمات التي حدثت في المجتمعات الرأسمالية إلى تدخل الدولة الاجتماعي الاقتصادي وتخليها عن دورها السياسي الليبرالي[7]. ومن هنا تُبني نظرتها للدولة.
أكد هايك على أن أفضل أشكال الدول هي الدول التي تمارس وظائفها من دون المساس بأكبر قدر ممكن من حرية الأفراد والجماعات المختلفة داخلها.. بأن تحميهم وتتركهم لتنظيم أنفسهم
وقد دافع هايك ومن خلفه النظرية الليبرالية الجديدة عن فكرة “الدولة غير المتدخلة” استنادا إلى تقاليد الفكر الفلسفي في القرنين السابع عشر والثامن عشر، ونادى بأن أقصى ما يجب أن تقوم به الدولة أن ترسخ عددًا من القيم الأساسية مثل: الحرية، المساواة، الملكية الخاصة، والمنافسة، وبقبولها من الجميع تشكل هذه القواعد «دستور الحرية» الذي ينبغي للدولة أن تكتفي بحراسته[8].
وقد استلزم كل ذلك ترتيبات مؤسساتية لتطبيقه. ويشير هارفي في هذا الخصوص بأن دور الدولة الأساسي في النيوليبرالية يتمثل في خلق الإطار المؤسساتي والحفاظ عليه بما يلائم هكذا ممارسات فمثلا يتعين على الدولة أن تضمن جودة ونزاهة النقد. وعلى الدولة أيضا أن تنشئ الهيكليات والوظائف العسكرية والدفاعية والشرطية والقانونية اللازمة لتأمين حقوق الملكية الخاصّة وأن تضمن بالقوة إن لزم الأمر عمل الأسواق بالشكل الصحيح والملائم. وعلاوة على ذلك يتعين على الدولة في حال عدم وجود أسواق أن تختلقها. وفيما عدا هذه المهام لا يجوز للدولة أن تتدخل[9].
فالدولة النيوليبرالية يجب أن تكون الي جانب الملّكية الخاصّة؛ أي إلى جانب الطبقة الرأسمالية المسيطرة، وينزع النيوليبراليين لتفضيل حكم الخبراء والنخب وعزل المؤسسات الشعبية والنأي بها عن صنع القرار من قبل القوى الديمقراطية ويفضل صنع قرار بموجب أوامر تنفيذية.
أما الإطار القانوني الذي تدعمه والذي ساعد في إرساء هذه التوجهات فيرتكز على الحرية التعاقدية والحق في التعبير وحرية الاختيار.
[1] رأسمالية اللبرالية الجديدة (النيوليبرالية)؛ فؤاد قاسم الأمير.
[2] الوجيز في تاريخ النيوليبرالية، دافيد هارفي.
[3] الوجيز في تاريخ النيوليبرالية، دافيد هارفي.
[4] رأسمالية اللبرالية الجديدة (النيوليبرالية)؛ فؤاد قاسم الأمير.
[5]علي القادري، التنمية العربية الممنوعة.
[6] دافيد هارفي المرجع السابق.
[7] فؤاد قاسم الأمير، المرجع السابق.
[8] دولة الرفاهية الاجتماعية، مركز دارسات الوحدة العربية. مقال ” الأسس الفلسفية والسياسية للوظيفة التوزيعية”، معتز بالله عبد الفتاح.
[9] دافيد هارفي، المرجع السابق.