خلال رحلتي الشّخصيّة في البحث عن سكن في تونس العاصمة – نعم، هي رحلة لمن لا يعرف – وجدت أنّ أسعار الشّقق ذات الغرفة الواحدة تتراوح بين 400 و700 دينار، بينما تتراوح أسعار الشّقق ذات الغرفتين بين 600 و1000 دينار. هذا ينطبق على مناطق وأحياء مثل أريانة، حيّ الخضراء، باب الخضراء، لافايات، ونهج مدريد. أمّا الشّقق الأصغر حجمًا، فتتراوح أسعارها بين 350 و550 دينارًا. والحديث هنا عن الشّقق غير المؤثّثة بطبيعة الحال.
ما إن رأيت إعلانًا على مواقع التّواصل الاجتماعيّ – التي أصبحت منصّة يلجأ إليها الآلاف للبحث عن السّكن – لشقّة معروضة بـ300 دينار وسط العاصمة، كان الأمر على النّحو التالي:
تونس الكبرى، التي تشمل ولايات تونس وأريانة وبن عروس ومنوبة، تضمّ ما يقارب ثلاثة ملايين ساكن، وفق تقديرات نشرها المعهد الوطني للإحصاء غرّة جوان 2023. وإذا أضفنا عدد الوافدين على العاصمة يوميًّا والمستقرّين بها وقتيًّا بغرض الولوج إلى المصالح الإداريّة، الخدمات الصحّيّة، و الطلبة المسجّلين في جامعاتها العموميّة والخاصّة، فإنّ عدد الراغبين في كراء الشقق والمنازل يصبح مهولًا.
أمام هذا التزايد الملحوظ في الطلب على السكن، خاصّة في العاصمة، لا يحتاج الأمر إلى كثير من الجهد لفهم أسباب ارتفاع أسعار كراء العقارات، خصوصًا في السنوات الأخيرة. فلا يمكن إنكار هذا الارتفاع، سواء نظرنا إليه من منظور زمنيّ، أو من زاوية القدرة الشرائيّة المتراجعة للمواطنين.
التقارير الإعلامية، من جانبها، غالبًا ما تكتفي بوصف معاناة التونسيين في البحث عن سكن لائق، أو باستضافة تقنيّين اقتصاديّين وممثّلين عن الغرفة الوطنيّة للباعثين العقاريّين، الذين يُرجعون ارتفاع الأسعار إلى عوامل مثل “زيادة تكلفة المواد الأوليّة للبناء” و”الطلب المتزايد مقارنة بالعرض.”
ومع ذلك، قد ينبري البعض متّهمًا المتذمّرين بالجهل بأسعار السوق. وهنا، يجدر الاعتراف بأننا غالبًا نفتقر إلى معرفة دقيقة بالقيمة الحقيقيّة للأشياء. إذ تتولّد عن طول البحث وعناء العثور على شقّة للكراء قناعات شخصيّة مثل: “يا إلهي، هذه الشقة لا تستحقّ أكثر من 300 دينار في الشهر! كيف يطلب صاحبها مليونا كاملاً؟” لكن هذه القناعات ليست بالضرورة دقيقة؛ فقد لا يكون سعرها الحقيقيّ 1000 دينار فعلًا. لكن، في المقابل، ما الذي يجعلنا نعتقد أنّ السعر “المعقول” هو 300 دينار؟
في ورقة بحثيّة صدرت عام 2003، أطلق الاقتصاديّون دان أريلي وجورج لوينشتاين ودرازين بريليك على هذه الحالة التي تجمع بين القناعة الشخصيّة والشّكّ مصطلح العشوائيّة المتماسكة”1.
إذن، كيف تُحدَّد القيمة الفعليّة؟ وكيف يتشكّل السعر؟
من يُحدّد السّعر؟ أو في معادلة “الغول” والمستضعف
طرحت هذا السؤال على عدد من الأصدقاء – قرابة عشرين شخصًا – مستفسرًا عن آرائهم حول ارتفاع أسعار الإيجار، في العاصمة تحديدا، فجاءت إجاباتهم على النحو التالي:
للوهلة الأولى، يبدو أن قانون العرض والطلب هو العامل الأساسي الذي يحدد سعر كراء الشقق والمنازل. بمعنى أن الأسعار تنخفض عندما يكون الطلب أقل من العرض، وترتفع عندما يكون العرض أقل من الطلب. ولكن، إذا تعمقنا أكثر، نجد أن هذا القانون يفسّر فقط التقلّبات الظرفيّة أو الوقتيّة في الأسعار.
المفارقة تظهر عندما يكون الطلب على الكراء مساويًا تقريبًا للعروض المتوفّرة:
في هذه الحالة، كيف يمكننا القول إن سعر الشقّة مرتفع أو منخفض؟
ما هو الأساس الذي يُحدّد القيمة الفعليّة لشقّة معينة معروضة للكراء؟
لا تُحدّد القيمة أيضا بالأجور، أي أنّ الفكرة القائلة بارتفاع قيمة السّلعة بارتفاع الأجور تجعلنا أمام سؤال “وكيف يُقاس الأجر؟” ونظلّ ندور في حلقتنا المفرغة حين نجيب يُقاس بقيمة البضائع.
وإذا وافقنا على كون قيمة البضاعة تُقاس بكمّية العمل، ووقفنا عند هذا الحدّ، سنجيب كون بناء وحدة سكنيّة تطلّب سنة كاملة نتيجة نقص حرفيّة المشرفين عليها ونتيجة تقاعسهم عن العمل، سيجعل من قيمتها مرتفعة للغاية. ونقرّ بكونها القيمة الفعليّة والحقيقيّة للوحدة السّكنيّة.
لذلك يضيف ماركس كلمة “الاجتماعيّ”، أي أنّ قيمة البضاعة تُقاس بكمّية العمل الاجتماعيّ. لنستخلص كون القيمة تُحدّد بكمّية العمل المُنفق وفق ظروف طبيعيّة للعمل وبإتقان قوى العمل الاجتماعيّ. وإذا ما أقرّينا كون الطّفرات المتتالية للتّكنولوجيا والاستعمال المتزايد للمكننة قد قلّص من كمّية العمل المُنفق، لماذا نرى الأسعار تواصل الارتفاع عاما بعد عام؟
في حوار أجراه المفكر الماركسيّ العربيّ علي القادري مع بودكاست أرض3 اعتبر أنّ القيمة هي عدّة حلقات تنتهي بتدمير المجتمع وأنّ السّعر هو الرّمز الّذي يُعطى لتغطية القيمة الحقيقيّة أو التّكلفة الاجتماعيّة وهو يغطّي عمليّة الاستغلال والدّمار الماضي والمستقبليّ. يتحمّل هذه الفجوة بين القيمة أو التّكلفة الاجتماعيّة وبين الرّمز أفرادُ المجتمع. بالنّسبة إلى القادري، هذا الرّمز أو السّعر تُحدّده موازين القوى في السّوق، والمُضاربة والقوّة الاجتماعيّة.
“كلّ علاقة اجتماعيّة هي تسليع وكلّ تسليع سعر وكلّ سعر جزء من منظومة الأسعار وجزء مركّب يتفاعل في الزّمن وآنيّا مع بقيّة الأسعار”؛ هذا هو جوهر الرّأسماليّة حسب قوله، فالمُنتج لا يُنتج ليفيد المجتمع بل ليُباع، ويتحدّث القادري عن “هدر الإنسان”…
إنّ هذا التّعقيد في مستوى فهم تشكّل الرّمز (أو السّعر) وعلاقته بقانون القيمة يُحيلنا مباشرة إلى فكرتين أساسيّتين وجوهريّتين، وهما “منطق القوّة” واللّاتوازن في السّوق ودور المُضاربة في تشكيل السّعر.
أوّلا، المُضاربة: ونعني بها عمليّة شراء وبيع الأصول، والعقارات في هذه الحالة، بناء على تحليل البيانات الاقتصاديّة وتوقّعات المستثمرين بارتفاع أو انخفاض الأسعار في المستقبل، وليس اعتمادا على القيمة الأصليّة للعقار. لذلك يجب أن نمِيز جيّدا هذه العمليّة التّجاريّة الماليّة البحتة من عمليّة الإنتاج. فالمُضاربة تهدف إلى تحقيق ربح سريع دون إنتاج أيّ سلعة ودون تقديم أيّ قيمة مُضافة. هي استغلال للفروقات السّعريّة (نسبة من السعر) لا غير، وهو سلوك يهدف إلى تحقيق مكاسب عالية في المدى القصير.
والمُضاربة ليست خاصّية محلّية، بل هي خاصّية هذا النّظام الرّأسماليّ العالميّ، الّذي حوّل مسألة السّكن إلى سلعة، وسلعة مربحة للغاية، عوض أن يكون حقّا مضمونا.
في إسبانيا مثلا، اتّسم سوق الإسكان بدرجة عالية من المُضاربة، ممّا أدّى إلى ارتفاع أسعار المساكن إلى 202 بالمائة بين سنتي 1995 و2007 حسب البيانات المصرّح بها من طرف المعهد الوطنيّ والبلديّ للإحصاء4.
إنّ هذا الارتفاع الواضح في أسعار العقارات نتيجة المُضاربة، يجرّ معه ارتفاعا بالقدر نفسه في أسعار الإيجار. وتقوم المُضاربة على مرتكزات ثلاثة على الأقلّ:
1- الاحتكار الظّرفيّ، أي أن يتحكّم قلّة قليلة في المعروض السّكنيّ، فنجد حيّا كاملا مليئا بالوحدات السّكنيّة تحت ملكيّة بعض الأفراد لا غير، وهو ما يُمكّنهم من رفع أسعار البيع والإيجار والتّحكّم في حركة السّوق عبر سطوتهم الماليّة.
2- امتلاك المعلومة، حيث تطّلع هذه القلّة القليلة المالكة للعقارات على المعلومات المتعلّقة بالأراضي المعدّة للإسكان وعلى التّشريعات المتعلّقة بالتّجهيز والبناء وعلى التّغيّرات القانونيّة الحاصلة وعلى المشاريع المستقبليّة الحاصلة في مكان ما والمتعلّقة بالبنية التّحتيّة من كهرباء وطرقات ومرافق عموميّة وخاصّة، وهم يقومون بذلك بفضل نفوذهم في السّوق الاقتصاديّة وداخل مؤسّسات الدّولة وإدارتها وبفضل إمكانيّاتهم لتسخير جملة من المتخصّصين القانونيّين (محامين ومُحاسبين).
3- التّوقّع والاستشراف، وهو ناتج عن المعطى السّابق أساسا، إذ أنّ المعطيات وجملة المعلومات الّتي تعرفها القلّة المالكة حصرا، تمكّنها من استشراف ارتفاع الأسعار وانتهاز الفرصة المناسبة للزّيادة في أسعار البيع والإيجار بشكل مُسبق، وهو ما يُبرّر ديناميكيّة السّوق العقاريّة البطيئة في بعض الأحيان. فحين يكون المُستقبل لارتفاع الأسعار، يمكن لصاحبه أن ينتظر ردهة من الزّمن دون كرائه.
تمرّ عمليّة المُضاربة عبر جملة من المُتدخّلين يسعى كلّ واحد منهم إلى ضمان ربحه بشكل سريع ومريح، حتّى يصل سعر العقار إلى أقصاه. حيث يبدأ الأمر من ملّاك الأراضي، الّذين ينتظرون الفرصة المُناسبة لمضاعفة ثمنها، قبل أن يشتريها المُطوّر أو الباعث العقاريّ (إذ لا فرصة تقريبا للمواطن محدود الدّخل لشراء الأراضي في ظلّ هذا النّوع من المنافسة) قبل أن تُختتم السّلسلة بالوسطاء العقاريّين (الشّركات والسّماسرة).
ثانيا، اختلال الموازين: يمكن أن تؤدّي الدّيناميكيّة الّتي يخلقها المُضاربون فيما إلى بعض التّقلّبات في الأسعار وسط السّوق، فالمنافسة بينهم تجعل من هامش الرّبح متغيّرا بينهم أيضا. والمنطق يقول إنّ الأسعار يُمكن أن تنخفض جرّاء ذلك في بعض الحالات. ولكنّ النّتيجة مختلفة تماما. فلتفادي هذا الضّرر الحاصل في الأرباح الخياليّة الّتي يجنيها المُضاربون في سوق العقارات، تُعقد اتّفاقات بينهم لتثبيت الموازنة التّالية: “أصحاب العقارات ورؤوس الأموال هم من يتحكّمون في المستأجرين لا العكس”.
فلا يجب أن تؤدّي قوانين السّوق الحرّة وديناميكيّة المُنافسة إلى إلحاق الضّرر بأحدهم. لذلك يُبرم أصحاب العقارات اتّفاقات صريحة أحيانا وضمنيّة أحيانا أخرى لتحديد أسعار العقارات في مكان معيّن.
مثلا تراوحت الشّقق الموضوعة على صيغ الكراء، خلال رحلة بحثي عن السكن، في الحيّ الأولمبيّ بتونس بين الـ700د و1200د حسب عدد الغرف الموجودة بالشّقّة أو المنزل (غرفتين أو ثلاث غرف). يُمكن أن يكون هذا الاتّفاق دون سابق نيّة. ولكن يبدو الاتّفاق أكثر وضوحا حين يتعامل أصحاب العقارات مع الشركات العقارية نفسها الّتي تهتمّ بالتّسويق لها.
يسهّل هذا الاحتكار لسوق العقارات فَرض السّعر على المُستهلك الّذي يظلّ في حلقة مُفرغة من البحث عن سعر أقلّ.
وإذا لم نجد احتكارا كاملا للعقارات من قبل قلّة، فأولئك يستعملون حيلا أخرى للزّيادة في سعر الإيجار. فلنلاحظ شقّة في الحيّ ذاته، يكون طلاء جدرانها باللّون الأبيض، دهن جيّد للغاية وحديث أيضا، ولنلاحظ شقّة أخرى بجانبها بلون آخر يوحي للسّاكن فيها أنّ المنزل أجمل بكثير من الأوّل. لا يوجد فرق مهمّ بين المنزلين، لكنّ السعر يكون مُختلفا بشكل “غير منطقيّ” رغم أنّ هذا الدّهن المُلوّن كانت كلفته 50 دينارا لا غير، إنّه “الاستثمار في الرّفاهيّة الظّاهرة”5، والتّعبير لصاحبه ريشارد ثالر.
ربما يُعطي العنصران المذكوران سلفا لمحة تقريبيّة عن سبب ارتفاع سعر الكراء على كلّ حال (المضاربة واتّفاق أصحاب العقارات).
السّمسار، ودور الوساطة
السّمسار العقاريّ هو وسيط محترف يتخصّص في “تسهيل” العمليّات العقاريّة بين البائعين والمشترين، أو المؤجّرين والمستأجرين. في المقابل يأخذ السّمسار عمولته المُتّفق عليها مع إتمام العقد وعمليّة الكراء أو البيع.
من خلال عمل ميدانيّ، توجّهنا إلى عدد من السّماسرة قصد سؤالهم عن وضعيّة الكراء في العاصمة ودورهم في هذه العمليّة، بما أنّهم “مُتّهمون” بالتّسبّب في ارتفاع أسعار الكراء.
ماهر (اسم مستعار) سمسار في باب الخضراء وسط العاصمة، اعتبر أنّ أسعار الكراء مرتفعة “أكثر من اللّازم” حسب تعبيره، وأكّد لي أنّه يُعاني أيضا من هذا الارتفاع، إذ أنّه يكتري شقّة بغرفتين بـ700د. وأرجع ماهر السّبب في غلاء الكراء إلى غياب قانون يُنظّم الأسعار ويضبطها من قبل الدّولة، معتبرا أنّ مالكي العقارات، أي الشّقق والمنازل أساسا، هم من يتحكّمون في السّعر دون سواهم.
وعن سؤالنا على سوق السّمسرة العقاريّة والمنافسة بينهم وبين وكالات الوساطة العقاريّة، أجابنا محدّثنا أنّ الفرق واضح، الوكالات القدرة على ضخّ أموال طائلة من أجل توظيف النّاس وتجهيز مكاتبها والصّرف على مسألة الإشهار والدّعاية (“قوّة فلوس”). وأضاف في الآن ذاته أنّ للسّماسرة حرفاؤهم خاصّة في المناطق الشّعبيّة، إذ لا يتوجّه محدودو الدّخل والموظّفون والعملة الصّغار نحو مكاتب وكالات الوساطة العقاريّة.
وأكّد ماهر أنّ السّماسرة لا يتحمّلون وزر غلاء الأسعار، فرغم أنّهم يأخذون عمولة نصف شهر من الكراء حسب ما هو متداول (في حين تأخذ الوكالة شهرا كاملا حسب ما صرّح وما عاينّاه في بحثنا)، فإنّهم يأخذون عمولتهم مرّة وإلى الأبد ولا يتحكّمون في سعر الكراء الّذي يحدّده المالك. وهم يفهمون أزمة السّيولة في الآن ذاته بالنّسبة إلى الباحثين عن الكراء الّذين يصعب عليهم دفع شهر الكراء والضّمان وعمولة السّمسار. إلّا أنّه يعتبر السّمسار حلقة ضعيفة وسط سوق العقارات، خاصّة مع تنامي وتزايد عدد الوكالات المعروفة.
يؤكّد هيثم، وهو الآخر سمسار بالمنطقة نفسها، على أنّ السمسار (ولا يقصد وكالات الوساطة العقاريّة) يتعرّض أكثر من غيره إلى هذا الكيل من الاتّهامات، في حين أنّه لا يتسبّب في زيادة الأسعار، وأنّه يتعرض أكثر من غيره إلى المشاكل والمُضايقات خاصّة في ما يتعلّق بعمولة الزّيارة (الـ20د في الوقت الحاليّ) وبامتعاض المُكتري واستيائه من العقار ومن ثمّ الرّبط مباشرة مع المالك من أجل التّخلّي عن عمولة السّمسار، إذ صرّح “في عديد من الأحيان، يعبّر لنا الشّخص عن رفضه للكراء بدعوى أنّ الشّقّة لا تناسبه، وأفاجَأ فيما بعد أنّ عمليّة الكراء حدثت مباشرة بين مالك العقار والمكتري”.
يُمكن أن نقول على الأقل إنّ سوق العقارات، ككلّ الأسواق الأخرى، يتدخّل فيهل عدد من الحيتان، وإنّ السّمسارة هُم حيتان صُغرى (ولا أظنّ أنّهم الحلقة الأضعف كما قيل) مازالوا قادرين على الاستمرار مع أسماك القرش الّتي تنهش لحم المواطنين الباحثين عن الكراء. وككلّ سوق أخرى أيضا، يبدو أنّ السّياسات الحكوميّة تؤيّد القروش وتسكت عنهم في أفضل الأحوال دون التّدخّل لحمايتنا.
سياسة الدّولة في وجه شبح العراء
لا يمكن أن تصبح مدننا صالحة للسّكن حقًا أو تستحقّ شعبًا متعلّمًا طالما أنّ مساكن مواطنيها تظلّ ملكًا لأفراد خاصّين. “لعلاج مشاكل الحياة في المدينة بشكل دائم، يجب أن يمتلك المواطنون مدينتهم”6 (جيمس كونولي، جمهورية العمال، 18 نوفمبر 1899).
عامل آخر مهمّ في معادلة الإسكان هو دور الدّولة. جانب غير عاديّ من مسألة الإسكان هو أنّها تضع “عنصرين من البرجوازيّة ضدّ بعضهما البعض: الرّأسماليّين ومالكي الأراضي. يمتلك مالكو الأراضي أجزاءً من سطح الأرض، وهو شيء لا يمكن زيادته أو إنتاجه. الدّولة تحمي الحقّ الحصريّ في هذه الملكيّة، ولها قيمة فقط من خلال استبعاد الآخرين”7.
إذن فالدّولة أوّلا تحمي حقّ الملكيّة الخاصّة، وهذا أمر شائع منذ ظهور الرّأسماليّة، تُرجم في القوانين والدّساتير. ولكن كيف تحمي الدّولة حقوق الرّأسماليّين أو الباعثين العقاريّين في هذه الحالة؟
ينصّ الفصل 4 من القانون عدد 71 لسنة 2016 المؤرّخ في 30 سبتمبر 2016 والمتعلّق بقانون الاستثمار على أنّ “الاستثمار حرّ”، وهي تعني أنّ “الحقّ في النّفاذ إلى السّوق حرّ أيضا”، والمشرّع بذلك يتماشى مع إرادة الدّولة الاقتصاديّة والسّياسية بلبرلة السّوق وتحريرها. والحرّية يُعنى بها رؤوس الأموال وأصحاب النّفوذ بطبيعة الحال. بل أنّها تُمتّع المستثمرين المساهمين في التّنمية الجهويّة حسب ما يقرّه الفصل الأوّل من القانون بمنح وامتيازات جبائيّة مهمّة خلال السّنوات العشر الأولى (اُنظر الفصل العشرين). كما أنّ القانون عدد 17 لسنة 1990 المؤرّخ فى 26 فيفرى 1990 المتعلّق بتحوير التّشريع الخاصّ بالبعث العقاريّ قد فكّ القيود الّتي فرضها القانون القديم لسنة 1977 الّذي فرض مراقبة المشاريع من قبل الإدارة المركزيّة وحظر المشاركة الأجنبيّة في رأس مال الشّركات العقاريّة. ومع ذلك اعتبرت الحكومة في 2014 أنّ كلّ الامتيازات والإعفاءات الضّريبيّة للباعثين العقاريّين لم تعد جذّابة”8.
إنّ الدّولة تنسحب بذلك تدريجيّا من دورها الاجتماعيّ في المجال العقاريّ الحيويّ (كغيره من مجالات الصّحّة والنّقل والتّعليم) تاركة المجال أمام المنافسة الحرّة لرؤوس الأموال والمُضاربة.
حتّى في المجالات المتّصلة مباشرة بالمشكلة ذاتها (أي السّكن) لا تولي الدّولة اهتماما بالسّكن الجامعيّ الّذي يواصل تدهوره بشكل متواصل منذ سنوات. إذ أنّ الطّلبة يمثّلون جزءا لا يُستهان به من نسبة الباحثين عن الكراء في العاصمة. في المُقابل وفّرت تونس سنة 2022 162 مبيتا جامعيّا، بطاقة استيعاب 65272 سرير. ووصلت مطالب السّكن الجامعيّ في العام نفسه إلى حدود الـ81 ألفا، حسب تصريحات المديرة العامّة للشّؤون الطالبيّة بوزارة التّعليم العالي. ربّما يرى البعض الفارق بسيطا أو يُمكن حلّه، ولكنّ الوضع الكارثي لعدّة مبيتات جامعيّة من جهة وبعدها الجغرافيّ عن الكلّية المُرسّم بها من جهة أخرى يقود العديد إلى البحث عن المساكن والمبيتات الخاصّة.
أمّا في سنة 2024، فكانت ميزانيّة برنامج الخدمات الجامعيّة في حدود الواحد والعشرين بالمائة من ميزانيّة الوزارة، حسب تصريح لوزير التّعليم العالي المنصف بوكثير. في السّنة نفسها كان نصيب الوزارة 3.81 بالمئة من ميزانية 2024 بعد أن كانت في حدود الـ4 بالمائة في السّنة الفارطة.
مثّلت نفقات التّهيئة التُّرابية والتّعمير والإسكان 13 بالمائة من مجموع نفقات مهمّة التّجهيز والإسكان حسب ميزانيّة 2024، علما وأنّ هذه الأخيرة تساوي 3.2 بالمائة من مجموع نفقات ميزانية 2024.
يُمكننا مقارنة هذا الرّقم مع الجزائر مثلا، إذ تُمثّل نسبة برنامج السّكن 9,68 بالمائة من جملة نفقات ميزانية 2024 9.
فاقدو المسكن، وطالبو السّكن، جزء من الانفجار الاجتماعيّ القادم
رغم تفاقم أزمة المسكن منذ سنوات عديدة في تونس، متمثّلة في غلاء أسعار الكراء خاصّة، فإنّ الموضوع بقي خارج دائرة الحراك الاجتماعيّ، وخارج سيرورة الاحتجاجات. وظلّت حالات الإخلاء التّعسّفيّ معزولة عن بعضها البعض، وظلّ المحتجّون لا يرفعون ضمن أولويّاتهم قوانين تنظّم أسعار الكراء وتدخلا عاجلا من الدّولة كي تلعب أحد أدوارها الاجتماعيّة الّذي تخلّت عنه منذ الانطلاق في سياسة “الانفتاح” حدّ اليوم.
وحين نقول أن الموضوع قد بقي خارج سياق الحراك الاجتماعي، فإننا لا يجب أن ننسى أبدا ما حدث بُعيْد انتفاضة 2011، حين “احتلّ” بعض المواطنين مساكن اجتماعية شاغرة من أجل السكن فيها. في ذلك الوقت انهالت وسائل الإعلام الرسمية بوصم هؤلاء وتشبيههم بالهمج غير المتحضرين. ولكنّ الحركة بقيت معزولة تواجه الإخلاء القسري من قبل أجهزة الدولة دون أيّ إسناد يُذكر.
تمّ في إسبانيا مثلا تأسيس تجمّع ضحايا الرّهن العقاريّ وهي جمعيّة إسبانيّة تناضل من أجل الحقّ في السّكن، تأسّست في شهر فيفري 2009 في برشلونة ثمّ امتدّ نشاطها إلى جميع أنحاء إسبانيا. وجاء إنشاؤها في إطار أزمة العقارات الإسبانيّة الّتي عرفتها البلاد بين 2008 و2013 نتيجة انفجار فقاعة العقارات، وحركات الاحتجاج اللّاحقة الّتي شهدتها إسبانيا خلال سنتي 2011-2012 10.
وفي البرازيل ظلّ البديل الوحيد هو اقتحام المساكن الشّاغرة واحتلالها والسّكن بها بشكل عنيف وممنهج من قبل حركة احتلال المساكن الشّاغرة وحركة الإسكان من أجل العدالة اللّذين تمّ تأسيسهما من أجل الدّفاع عن حقّ السّكن وتنظيم شؤون المتساكنين بالوحدات السكنيّة وحمايتها من أيّ إخلاء قسريّ قد يحدث من قبل السّلطات.
ورغم أنّ الأزمة السّكنيّة لم تبلغ أوجها إلى حدّ اللّحظة، فإنّ سياسات الحكومات المتعاقبة ستؤدّي إلى انفجار اجتماعيّ، محوره الحقّ في السّكن.
الهوامش:
1 Priceless، ص20.
2 كارل ماركس، الأجور والأسعار والأرباح.
3 https://www.youtube.com/watch?v=IrDjMzjehto
4 المضاربة بالعقار السّكنيّ قراءة في خصوصيّة المفهوم والممارسة، أ. د. شوقي قاسمي، جامعة محمّد خيضر، بسكرة، الجزائر، ص7.
5 Priceless، ص162.
6 https://socialistvoice.ie/2021/04/marxism-and-the-housing-crisis/
7 المرجع السّابق.
8 La production de logements par les promoteurs immobiliers privés- M. Gdoura- Oct 2014 (mehat.gov.tn)
9 https://www.mf.gov.dz/index.php/ar/activites-ar/1481-2024-6
10 مقال لمرتضى العبيدي في موقع الحوار المتمدّن: